مجلة
عتبـــات
مجلة أدبية ثقافية محكَّمة
عتبـــات
مجلة أدبية ثقافية مُحَكَّمة
العدد الثاني السنة الثانية
25/يناير /2013
في الذكرى الثانية للثورة
رئيس التحرير
دكتور / عزوز علي إسماعيل
ـ مستشارو العدد الأول:
- الدكتور جميل حمداوي رئيس جمعية الجسور للثقافة والفنون المغرب العربي
- الدكتورة نجوى عانوس رئيس قسم اللغة العربية كلية الآداب جامعة الزقازيق. مصر
- الدكتور وحيد الجمل أستاذ الأدب والنقد والبلاغة كلية الآداب جامعة الزقازيق
شروط النشر في هذه المجلة
1- أن يكون البحث جديداً ومبتكراً وذا رؤية.
2- أن يساهم البحث في فك طلاسم العتبات وتبيانها للمتلقي
3- ألا يقل البحث عن عشرين صفحة من صفحات A4 بهوامش 2.5 سم وبخط 16arabic simplified
4- يحصل الباحث على مبلغٍ وقدره 1000 جنيه بعد نشر البحث وتصله نسخة ورقية بعد أن تصبح المجلة كذلك. وسوف تعدل قيمة المبلغ بعد أن تخضع للهيئة المصرية العامة للكتاب.
قراءة في عتبات النصوص عند ليلى العثمان
في مجموعة
[ الحواجز السوداء ]
الدكتور
عزوز علي إسماعيل
azozali@live.com
توطئة
إذا كان الناقد الفرنسي جيرار جينت قد تناول "عتبات النصوص " في مؤلف ضخم عنونه بـ " عتبات " وقسَّمه إلى عدة فصول بدأها بتعريف النصِّ الموازي الداخلي péritexte في أحد عشر فصلاً , والذي اشتمل على الغلاف والمؤلف والعنوان والإهداء والمقتبسات والمقدمات والهوامش. وفي نهاية الكتاب, خاصة في الفصلين الأخيرين, تحدث عن النــصِّ الموازي الخارجـي, Epitexte , وهو النص الذي تربطه علاقة بالنص الأساسي؛ سواء أكان مذكرات أم شهادات أم إعلانات, فإن هذه الدراسة الخاصة بالعتبات لم تكن اكتشافاً جديداً لجيرار جينت؛ حيث إن التراث العربي القديم قد حوى بين طياته البدايات الأولى لدراسة العتبات, فرأينا أبا بكر الصولي في كتابه " أدب الكُتَّاب " وابن الأثير في كتابه "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" وأبي القاسم الكلاعي في كتابه " أحكام صنعة الكلام " والجاحظ في كتابه الحيوان حين قال " إن لابتداء الكلام فتنة وعُجْباً", إشارة منه إلى المقدمات. ومن ثم فإن الأدب العربي أول من وضع الشذرات الأولى لدراسة عتبات النصوص, وجدير بالباحثين العرب أن يعيدوا مجدهم الماضي؛ وهذا لا يعني التقليل من شأن الناقد جيرار جينت, بل لا بد من القول بأن هذه الدراسة هي الدراسة الأولى الممنهجة لعتبات النصوص في العصر الحاضر , ومن هنا فسنأخذ على عاتقنا دراسة عتبات النصوص وما يحيط بالنصِّ, عند الروائية ليلى العثمان من خلال مجموعتها القصصية " الحواجز السوداء"
الغلاف:
إن رسمة الغلاف ما هي إلا تواصل بصري يترجم واقع العمل الداخلي وقد " استأثر موضوع التواصل البصري باهتمام الدارسين؛ حيث عقدت لأجله الندوات والملتقيات, ومن بينها الندوة التي عقدت في باريس 1988, ونشرت أعمالها تحت عنوان(المشاهد في مواجهة الإشهار) ومما تم التأكيد عليه هو أن العين تحوز القسط الأكبر من الأنشطة الإدراكية على أساس أن 80% من الخبرات تصلنا عن طريق الخبرة"[1] وبالتالي فإن الصورة أو الغلاف يكون أقرب للنظر من الخط المكتوب, وليس العنوان, فالرسمة تكون أسرع في الوصول إلى المتلقي من العنوان. ومن ثم نبدأ بالغلاف قبل العنوان.
لقد سيطر على غلاف هذه المجموعة السواد, فيبدو من ظاهره الحزن؛ بدايةً من العنوان المكتوب بخط سميك وباللون الأسود, مروراً بالسواد الذي اتشحت به الروائية, فهي تقف حزينة باكية متأملة مما وصل إليه حالها, تقف أمام شبكة من الحديد, تستند إليها, وانتهاء بلفظة قصص, مع اسم الكاتبة " ليلى العثمان " في أسفل صفحة الغلاف, لذلك فإن هيئة الكاتبة وهي تقف حزينة أمام الحاجز الشبكي, ترتبط بالعنوان المكتوب باللون الأسود, الأمر الذي يبعث في المتلقي الشعور بالتعاطف معها, وكأن تلك الحواجز تقف في طريق القراءة نفسها, فحينما يجد المتلقي هذا الغلاف, فإنه يستشعر بدايةً وجود عوائق أمامه, فيحاول إزالة تلك العوائق بالقراءة.
وظيفة الغلاف
الغلاف يعبر عن رؤية الفنان للعالم, فمع تقدم الطباعة في الوقت الحاضر وبعد أن كان الغلاف في السابق من أجل حفظ ما في المتن من البلل والتراب وغيرها في المراحل الأولى للأغلفة, أصبح الغلاف الآن يتخذ منحى آخر من خلال مدى تطابقه للمتن ومدى التعبير عنه فأصبح الغلاف الخلفي خاصةً لكلمة الناشر أو الكاتب أو تعليقاً نقدياً لكاتب مرموقٍ أومقتطفاً هاماً من الرواية أو المقدمة أو أن يكون الغلاف الخلفي جزءاً مكملاً لأيقونة الغلاف الكلية " ومثلما كان غلاف الكتاب ضرورة وظيفية لحفظ أوراقه التي تحمل المتن, كان تصميم صفحاته الداخلية أيضاً ضرورة وظيفية لتسهيل صناعته وتيسير قراءته, وتفادي وصول التلف إلى متن الكتاب"[2]. وأصبح الإغراء أيضاً من أهم وظائف الغلاف التي تسعى لجذب القراء لاقتنائه" وكان الجمال في كل الحالات هو في تحقيق الوظائف بأبلغ الصور وأيسرها, وفي الجدة والابتكار والحلول غير المسبوقة" [3] . وهو ما نراه في صفحة الغلاف لدى ليلى العثمان, فالغلاف كان مرتبطاً بالرواية, وإذا ما نظرنا إلى الرواية نجد هناك شبكة سردية مرتبطة بالحزن المخيم على الرواية, تقول الكاتبة " من خلف الحواجز تنتصب وجوه الراحلين, يودعون الأرض التي تبادلوا وإياها الحب فتكسر. لم يبق سوى الهزائم السوداء كالسيف تطردهم فيغادرون لا كما يغادرونها كل مرة إلى سفر قصير وهم يطبعون قُبلاتهم على خد قمرها ودفء بيوتهم المنتظرة"[4]
إن الغلاف يحتاج إلى أكثر من قراءة, فكل قراءة تؤدي إلى فهم جديد يحتم علينا أن نكون واعين بكل ما يحتويه الغلاف, ليس ذلك فحسب, بل إن الرواية الواحدة تستحق دراسة من خلال معرفة الطبعات المختلفة, ودراسة الرسمة الغلافية لكل طبعة من طبعات الرواية, وذلك من أجل معرفة رؤية الفنان للعالم, فمن خلال معرفة تلك الرؤية فإن الأمر يستبان للدارس والباحث أو حتى المتلقي, لأن رسمة الغلاف تمثل ظاهرة حضارية تجلت بعد أن دخل عصر الطباعة في الوقت الحاضر؛ حيث نرى التفنن في الترف من خلال اختيار أفضل الطبعات وكذا أفضل الخطوط. وقد ظن الفنانون في البداية أن الرسومات قد تمحى مع الزمن بفعل الهواء والتراب, رغم علمهم الأكيد بأن الرسمة تظل حافظة لمكانتها مع تقدم السنين وأن التجارب العلمية الناجحة الآن قد يثبت فشلها فيما بعد[5] إلا الرسمة أو الصورة فتظل لفترات طويلة معبرة عن حدث لا تتغير بتغير الزمان والمكان, كما هو الحال في صورة الكاتبة على صفحة الغلاف. ولكن وعلى الرغم من ذلك فإن تطور الفن ودخول مرحلة الطباعة مع بداية القرن الثامن عشر , جعل هناك توثيقاً للرسومات والصور, بل أصبح من الممكن طباعة ما لانهاية من الرسمة الواحدة, وازداد الأمر توثيقاً وتوضيحاً حين أدخلت تقنيات الكمبيوتر في العصر الحاضر؛ لذلك فإن رؤية الرسام قد عايشت تجربة الكاتبة بعد قراءة العمل, وجاءت الرسمة معبرة عن الواقع الذي عاشه أهل الكويت خلف الحواجز.
العنوان
انطلقت الكاتبة في هذه المجموعة القصصية من الواقع المعيش, والذي حمل في جعبته مرارة الغزو وظلم المحتل, فطالما نادت وحلمت بذلك النور البعيد, بالحرية التي تنشدها, وينشدها معها شعبها الذي سلبت إرادته في يوم من الأيام. انطلقت الكاتبة من تفاصيل اجتياح الغزو العراقي للكويت, واستطاعت بحسها الأدبي أن تستنطق المشاعر والأحاسيس لدى المتلقي, وجعلت الآخر يحس بآلامها وآلام شعبها في هذه الفترة المظلمة من تاريخ وطنها, والذي ذاق فيها مرارة الظلم.
لذلك فقد أرخت هذه المجموعة القصصية لفترة زمنية عاشتها الكاتبة وشعبها, مستخدمة الرمز لتهرب من الواقع, حتى تستجلي عظمة الأدب في إبراز تلك المحنة. وإذا كان ألبيرت كامي قد جعل الفأر ينقل الطاعون في رواية "الطاعون" فإن ليلى العثمان أخذت من الجراد إشارة كي يستولى على المدينة؛ حيث جعلته ينهش ويأكل كل ما يعترض طريقه في قصة" الجراد ينهش المدينة" وهي رمزية تشي بما فعله الغزو العراقي بأهلها, ومن هنا فقد اختارت الجراد لينقل الأمراض, باعتباره أداة رمزية سردية.
وإذا كانت الكاتبة قد عنونت مجموعتها بلفظتي الحواجز السوداء فإن ذلك يمعنى أنه لا يوجد حاجز واحد قد اعترض طريقها وطريق شعبها, بل هناك حواجز كثيرة, كانت بدايتها ما حدث لها ولإخوانها الكويتيين من الذعر والخوف من بطش الغازي وهو الغزو العراقي لبلادها عام 1990.
إن العنوان الذي عنونت به الكاتبة مجموعتها القصصية قد أخذ مكاناً في الغلاف, وله تفسيره ودلالته وفق ارتباطه بمضمون العمل ذاته, ذلك أن العنوان يقوم بجمع شتات ما يتضمنه النص, ومن هنا فقد امتطت ليلى العثمان جواد كلماتها كي تتغلغل في النفوس من خلال الحواجز السوداء, فهي تسعى لالتقاط " عناصر التفصيل الخارجي للانطلاق في أحداث القصة, وهي لا تفرط في الحزن شأن الرومانسيين, ذلك الحزن الذي يحبط الحلم ويدعو إلى اليأس. إنها تعود إلى أصول أدبنا العربي الحسي والصريح, ولا تحرص على إظهار الإنسان الكويتي بصورة مثالية مطلقة, فهو إنسان حي يخاف ويحتمي ويجزع ويترقب ويدافع"[6]
وهذه المقاربة لها ارتباط بالحواجز السوداء؛ لأن تلك الحواجز هي مجموعة من المحطات التي عاشتها الروائية. فإذا كان العنوان من أهم عناصر النص الموازي, فإن ليلى العثمان سعت بقدر استطاعتها في إظهار معاناة شعبها من خلال هذه المجموعة, تقول الكاتبة" ليس هو وجه مدينتي. وجه غريب عني. يتحول أمامي عينا واحدة تبكي فأتمنى لو أشرب دمعها وألقحها بالفرح. لكن الفرح فرّ. وحده الموت قد يأتي في أية لحظة وصوته بغضب يأتيني " ستموتين يا مجنونة"[7] فالعنوان الذي صدرته صفحة الغلاف, والذي هو علامة دالة على العمل, هو دليل على مجموعة من الآلام التي ألمت بها وبشعبها, خاصة فيما حدث لها ولإخوانها في أثناء الغزو العراقي لبلادها" فالعنوان عبارة عن علامة لسانية وسيميولوجية غالباً ما تكون في بداية النص, لها وظيفة تعيينية ومدلولية ووظيفة تأشيرية أثناء تلقي النص والتلذذ به تقبلاً وتفاعلاً. يقول الباحث المغربي إدريس الناقوري مؤكداً الوظيفة الإشهارية والقانونية للعنوان" تتجاوز دلالة العنوان دلالاته الفنية والجمالية لتندرج في إطار العلاقة التبادلية الاقتصادية والتجارية تحديداً"[8]
فمقصد العنوان الدلالي هنا هو الحواجز السوداء التي اعترضت طريق الكويتيين في ممارسة حياتهم العادية, والتي دأبوا عليها, فالدلالة هنا تكمن في بعدين؛ الأول بعد نفسي وهو ما نتج عن هذا الغزو من فزع الأطفال, وإذلال الكبار الأمر الذي جعل الروائية تعبر عن هذا الأمر بمجموعة من تلك الحواجز التي وصفتها بالقتامة. والبعد الآخر بعد تركيبي؛ حيث جاءت بالحواجز السوداء لتوجيه الخطاب ولتأسيس العناوين الجزئية التي حوتها تلك المجموعة القصصية, بموضوعاتها المختلفة والتي تلتقي جميعاً في نقطة القهر والظلم الذي نال شعبها ونالها هي شخصياً؛ فكل قصة أفضت إلى العنوان الرئيسي. وكل عنوان فرعي لقصة من القصص قد أخذ جزءاً من ذلك السواد.
اختارت الكاتبة لفظة " الحواجز " وهي جمع تكسير؛ لكثرة تلك الحواجز, والتي وصفتها بالسواد وهو علامة على الحزن والألم الذي يعتصر قلبها وقلوب أفراد شعبها؛ حيث نال أهلها وشعبها التعذيب والتنكيل والمزيد من الإهانات, والتي عبرت عنها من خلال العناوين الأخرى للقصص الباقية؛ حيث تعتبر كل القصص بمثابة خيط واحد كلها يصب في قالب الحواجز, ذلك أن العناوين الداخلية لها علاقة وطيدة بالعنوان الرئيسي وكذا بالبنية الدلالية للمتن نفسه " فالنقد الحديث يوسع دائرة المتعاليات أو الحواشي أو الأطراف الملحقة بالنصوص ويرفع من شأنها, بوصفها بنى لغوية موازية تسعف بإدراك الدلالة النصية وتعيين مقاصدها الدلالية"[9]
ففي الحاجز الأول " للعباءة وجه آخر " تقول" كل الوجوه ارتدت حواجز سوداء"[10] وهي تشير إلى الكآبة والمرارة التي رأتها على الوجوه بسبب ذلك الغزو, وما لاقته من هؤلاء الجنود الذين وضعوا في قمة اعتبارهم إهانة وإذلال الشعب الكويتي, وهو ما حدث للكاتبة حين ذهبت تتسوق لأهلها من الجمعية التعاونية, وما لاقته من هؤلاء الجنود. وهو ما يدلل على الوجه الآخر للعباءة, تقول" حاجزان. ثلاثة. احتملت سماجة الأسئلة. أرغب الفكاك لأصل, لكن سيارة عسكرية تقطع الطريق. توقفت, نزل اثنان. صوت أحدهما آمرا: افتحي الصندوق. هلع قلبي"[11]
فالوجه الأخر للعباءة هو الوجه المقلوب, وهو الوجه الذي لا يصلح أن ترتديها به؛ لأنه مقلوب عن الأصل الطبيعي, وهو وجه هؤلاء الجنود حين خرجوا من طور الجيرة والأخوة العربية إلى طور آخر مكشراً عن أنيابه, يسعى بكل جهده من أجل طمس هوية شعب مسالم, فراحت تدافع بالكلمة الأدبية من خلال تلك الحواجز.
إن النصَّ الذي بين أيدينا للكاتبة ليلى العثمان هو نصٌّ قد مزقته الآهات وتناوبت عليه المحن والحواجز. مرَّ عبر مراحل السدود القاسية ينبض بلوعة عارمة, ويبدو ذلك من العلاقة الرابطة بين المتن والعنوان الجزئي والرئيسي " والواقع أن النصَّ الأدبي بعامة خطاب لغوي يمكن تقطيعه, بمعنى أنه مؤلف من بنى جزئية, تكوِّن في مجموعها ما يعرف بالنص التام, أي أن العنوان في حقيقته بنية نصية جزئية, وكذا المتن هو الآخر بنية نصية جزئية, من أجل ذلك باتت الحاجة ملحة للنظر في الروابط والعلاقات بينهما, إذ النص المتن قد يكون صورة موسعة للعنوان, والعنوان قد يكون صورة رمزية للنص"[12].
وفي " الجراد ينهش المدينة" نرى ثنائية فعل الجراد, فجراد تفرح له وآخر تتمنى له الهلاك, فالمفارقة هنا تكمن في أن الجراد الذي كان يعود عليهم بالخير هو ذلك الجراد الذي كانوا يأكلونه, في الوقت نفسه لوحت إلى الجراد الذي أتي لكي يأكلهم, وهي هنا تشير إلى الغزو العراقي. فما العلاقة بين الجراد في موضع الفردوس والجراد الذي يقودهم إلى النار. لقد كان من المتوقع دائماً أن الجراد يأتي لفائدة تفيدهم بينما الجراد في هذه المرة أتى مغتصباً حقاً ليس بحقه, وهنا تظهر مفارقة بين شيء مقبول وآخر غير مقبول. وهي بذلك تؤرخ لما نالها في هذه الحقبة المرة, ولكن بطريقة الفن.
فالحواجز الرئيسية قد اشتملت على حواجز جزئية يمكن إدراك العلاقة بينهما, على العكس من روايات أخرى نجد فيها بعض الصعوبات في حالة مقاربتها, لذلك فإن العنوان عند ليلى العثمان نستطيع من خلاله فك شفرات المتن, وحل ألغازه الكامنة فيه, وفق النسق الدرامي والحركات السردية, بحكم أن العنوان علامة على النص.
وإذا كانت ليلى العثمان قد نظرت إلى رواية الطاعون " LA PESTE " لألبير كامو, والتي في حد ذاتها رمز للاحتلال النازي الهتلري, حيث نجد اختلاطاً بيناً في الرمز هنا, يتواشج ويتماوج مع البعدين الإيحائي والحقيقي, الذي يتحدث عن الوباء الذي أصاب مدينة وهران الجزائرية 1994, فإن العنوان الرئيسي تعيين لجنس العنوان الفرعي, فالطاعون عند ليلى العثمان هو حاجز آخر يقف حاجزاً في وجه النهوض بالبلد, بل وقف حجر عثرة أمام أبناء جلدتها, واستطاعت أن تعبر عن ذلك أدبياً للدفاع عنها.
وإذا كان العنوان وهو الطاعون قد حمل رمزاً عدائياً فقد التقطته ليلى العثمان, ولكن بطريقة الكاميرا الخفية , حيث جعلت هذا الطاعون, وهو هنا الاحتلال العراقي لبلادها ينتشر لينهش كل ما في المدينة تحت عنوان آخر في المجموعة نفسها" الجراد ينهش المدينة" لتعالق ذلك بالرحيل الدامي ووجه الطاعون القديم الذي عاد مع الغزو, وهنا إسقاطات معاصرة لربط شيئين, الأول مرض الطاعون, وحين يحل يأتي على الجميع بالخراب والموت, لأن الجراد حين يأتي لم يترك أي شيء حتى يهلكه, وهو تصوير دقيق للواقع مع الصدق المتناهي والرمزية البسيطة في هذا العمل." لم تستسلم المدينة لحزنها ولم تفقد عزمها القديم. في خلال أيام كانت أرحام الأمهات الباسلات تتواصل, وسواعد الشباب النضرة تتواصل.. وعزائم الرجال الشائبة رؤوسهم تتواصل"[13]
العنوان هنا رمز لأشياء أخرى نستشفها من خلال القراءة, ومدى العلاقة بين النص والعنوان و " تستخدم العناوين لإعطاء فكرة عن صلب الموضوع, وصلب الموضوع كلمة ليست بريئة, ويفترض أنها امتداد لتصور الموضوع, والذي يمكن أن ينظر إليه على أنه مبالغ فيه"[14] فالتأويل الجيد للعنوان يساعدنا في كشف رموز ذلك العمل " هناك ـ إذاً ـ عدة طرق ليكون العنوان ذا موضوع, وكل واحد من هذه الطرق يتطلب تحليلاً سميائياً؛ حيث إن تأويل النص يلعب دوراً كبيراً, ويخيل إليَّ [ جيرار] أن المورفولجيا تعطينا مبدأ فعالاً يمكن استعماله للتوصل إلى عدة مفارقات عامة"[15] يمكن من خلالها ربط العنوان بالمتن والعكس, لذلك فإنه يلزم طرح المزيد من الأسئلة النقدية لتوضيح العلاقة بين العنوان والنص, من أجل مقاربات دقيقة, نعرف من خلالها الدلالات وأبعاد العلامات التي تربط الرواية بحياة الكاتب؛ ذلك أن الكاتب هو المتحدث الرسمي باسم بلده بطريقة أدبية, خاصة وأن أهم وظيفة للرواية هي الوظيفة الاجتماعية " حيث إن السيميولوجيا حسب فريدينان دي سوسير تبحث في حياة العلامات من داخل الحياة الاجتماعية أي إن لها وظيفة اجتماعية, يقول سوسير: اللغة نظام علامات يعبر عن أفكار"[16]
إن دلالة الرؤية لدى ليلى العثمان لها ارتباط بلغتها السهلة القريبة من الأفهام, والتي سعت من خلالها إلى إظهار معاناة شعبها فاختارت الحواجز التي اعترضته, فلغتها" قريبة من اللغة المحكية وإجابات الواثق من اعترافه, وهي في الوقت ذاته غنية وحاذقة بهيئتها المبنية من رموز متعددة, واستعارات وإحالات تخدم التعبير والتلميح الخاص للمعنى المعروض"[17] .
إن واقعية التجربة لدى ليلى العثمان هي التي ساعدتها في استنباط الفكر الحي للشعور الذي ينتاب شعبها وقت الأزمات ووقت الحواجز السوداء, وأبانت عن ذلك من خلال تلك الحواجز, وأرادت أن تظهر لشعبها أولاً أن الحياة ليست وردية دائماً بل ستصاب بقتامة في يوم ما وخير شاهد ما حدث من الغزو العراقي, فلتستعدوا لما هو أكبر وأقوى من ذلك, حتى تصبح لديهم مناعة وحصن من كل ذلك.
وإذا كانت ليلى العثمان قد أرَّخت لحقبة من حقب التاريخ الكويتي في بداية التسعينيات من القرن الفائت, فإنها في الوقت نفسه أرادت تدوين كل ما كان من خلال تلك الحواجز؛ مع إعطاء بعض الإشارات والتلميحات على آلام شعب آخر, وهو الشعب اللبناني " فللعباءة وجه آخر" هي قصة لها ارتباط آخر ودلالة أخرى بالمأساة التي تعرضت لها لبنان؛ فالكلمة لها دلالة على شيء آخر, فهى تقول من وحي الذاكرة " اشتعل أمامي حريق بيروت بأعنف مشاهده. فزع تحت قصف الرصاص. سيقان الأطفال المتراكضة نحو مأوى حائط متهتك أو ربما برميل ماء صدئ. موت . دم مرشوش فوق الحوائط المليئة بالشعارات."[18]
الاحتلال يساوي دمار, والدمار نتيجة احتلال والمأساة هي نتيجة الاثنين معاً وليلى العثمان شاهد على ذلك العصر الذي رأت ما فيه من تقلبات وأحداث في حقبة معينة, عاشت مرارته مع وجود الاحتلال الذي لا يسوي بين غني وفقير أو عظيم وحقير.
إن العنوان الفرعي هو جزء من العنوان الرئيسي, وهو دلالة عليه, وهو نص موازٍ للمتن الأساسي, نبحث عوالمه الدلالية من الناحيتين معرفة العلامات التي تدل على أشياء نشأت في حضن المجتمع الذي يحيا فيه الكاتب؛ حيث إن" سوسير saussure يرى أن العلامة السيميولوجية لا تؤدي إلا وظيفة اجتماعية. بينما بيرس يرى أن وظيفة السيميوطيقا منطقية وفلسفية"[19]. وسواء أكانت فلسفية أم اجتماعية فإن الهدف الرئيسي للرواية هو الهدف الاجتماعي, ذلك أن أهم وظيفة للرواية هي الوظيفة الاجتماعية, وبالتالي يظل الكاتب يجول عبر أفكاره, ولكنه لا يترك الهدف الرئيسي من الكتابة, وإذا كتب عن التاريخ فإن الأمر يستدعي منه الحيطة والحذر, فقد يؤخذ بما يكتبه ليؤرخ شيئاً ما, وقد ذكر الدكتور صلاح فضل أنه " من الممكن أن نعتمد على نموذج مثالي للمنظور العلمي, بحيث يصبح الراوي مؤرخاً موضوعياً يجمع الأحداث ويرتبها دون أن يزج بنفسه فيها, تاركاً للدلالة أن تنبثق منها بطريقة عفوية"[20] فليلى العثمان في هذه المجموعة القصصية تحاول قدر الإمكان رصد كل ما جرى في أثناء الغزو العراقي للكويت, حيث أقحمت نفسها في الشخصيات وأصبح دورها بارزاً من خلال الشخصيات ومن خلال الضمائر المختلفة الموجودة في المجموعة, وتاريخية الأحداث مرتبطة بالعنوان الرئيسي والفرعي, فما حدث لها ولأسرتها نجده في نقاط التفتيش وفي العراقيل التي وجدتها من خلال هذه الحواجز التي وصفتها بأنها سوداء, وإذا نظرنا إلى العناوين الجانبية, فإننا نجدها أكثر سواداً لتتعانق وتتعالق مع العنوان الرئيسي في إضفاء بعض الدلالات السيميولوجية للعمل, نحو هذه الحواجز . البطاقة. وعاد البحر. وجوه خلف حاجز الذاكرة. وجه الذئب. الجراد ينهش المدينة...
إن ارتباط العنوان بالحالة السياسية له أثره الواضح في اندماج الكاتب مع تلك الحالة, بحكم أنه عنصر فاعل فيها, والعنوان نفسه ما هو إلا كتلة صماء قابل للتحليل, فإذا فُهم المتن جاء فهم العنوان رويداً رويداً؛ ذلك أن العنوان عنصر استراتيجي عند ليلى العثمان, وحينما نقول استراتيجي فإن له دلالته التخطيطية ؛ حيث إن الحواجز السوداء قد تمثلت إستراتيجيتها في ربطها فنياً وتقنياً بالعنوان الفرعي الداخلي, وكأن القائد, وهو العنوان الرئيسي, يعطي تعليماته العسكرية إلى العناوين الفرعية الداخلية, وحين يعطي القائد تعليمات فلا بد من إتباع تلك التعليمات؛ ذلك أن العناوين الفرعية أو عناوين القصص الجانبية في حالة عمل دءوب معاً من أجل الانصياع لأوامر القائد العام وهو العنوان الرئيسي.
ومن هنا فإن التاريخ السياسي يندمج مع الرواية في أنها تذكِّر به, فضلاً عن أن العنوان عند ليلى العثمان وهو " الحواجز السوداء" له ارتباط بحواجز الاحتلال والتي عددتها في نهاية المجموعة القصصية وجمعتها في تسع حواجز, حيث أرادت تلخيص القصص السابقة من خلال تلك الحواجز, والتي هي في الأساس نتيجة للاحتلال.
العنوان أهم عنصر من عناصر النص الموازي, وهو تكميل للمتن كما أن المتن تكميل وتوضيح وتفسير له, لأنه كتلة صماء يقوم الناقد بفك شفراتها عند القراءة والمقاربة, فالعنوان له أيديولوجية ارتباطية بالحالة المزاجية للكاتب حين يعالقه بالحالة السياسية للبلد التي يحيا ويعيش فيها؛ لذلك كان لزاماً على ليلى العثمان أن تسرد لحدث تاريخي, لا بطريقة المؤرخ الراصد لكل ثغرة, بل بطريقة الفنان الذي يستشعر الأحداث, ليقوم بالتعبير عنها, تلك الأحداث التي تناولتها الأقلام والألسن في فترة من الزمان خاصة الأقلام المؤرخة للأحداث, وما حدث للخليج في عام1991.
إن العنوان في الأوقات الحاضرة ارتبط بالأحداث الجارية في أوقات معينة, والتي يستطيع الروائي أن يأخذ جزئية بسيطة ليلقي عليها الضوء, فإذا نظرنا لرواية واحدة للأستاذ نجيب محفوظ وهي " زقاق المدق " والذي لا يتسع إلا لبضعة أمتار, نجده قد جعل منه رواية غاية في الجمال, والكل أصبح يسمع بذلك الزقاق, ومن ثم فإن الفنان يستطيع هضم الشيء البسيط ليظهره عبر جهازه الأدبي من منظوره هو, مؤرخاً له, واضعاً في حساباته القيمة التي يمكن أن تؤخذ من هذا العمل. ومن هنا فإن العنونة الروائية أصبحت ترتبط بأشياء رئيسية, من خلال الذات التي تنتجها أو الواقع الذي يحياه أو المرجع التاريخي.
وظيفة العنوان عند ليلى العثمان
استطاعت ليلى العثمان أن توظف العنوان من خلال ارتباطه بالواقع المعيش أي بالمجتمع, فمن العنوان الرئيسي نجد تحديد المقصد والإشارة منه؛ ويظهر ذلك من خلال توزيع ظلاله على باقي عناوين المجموعة, والتي هي في ترابط مع العنوان الرئيسي, وبالتالي فإن الوظيفة الإشارية قد حملها العنوان في جعبته؛ ذلك أن من أهم وظائف العنوان الترابط والإحالة مع باقي عناصر العمل القصصي؛ فالرواية بأكملها هي من أجل إظهار معاناة مجتمع, وجاء العنوان معبراً عن تلك المعاناة من خلال الحواجز؛ فالعنوان يحيل إلى العمل كما أن العمل يحيل إلى العنوان حيث " تتألق العلاقة الجدلية بين الروائي ومادته, والمادة هنا هي الشخصية أو الفرد والمجتمع, فكلاهما يتأبى على واقعه ويختلف معه وكلاهما يبحث عن ذاته بهدف أن يعيد الانسجام بين هذه الذات والكون. وكلاهما يسعى أن يقدم بديلاً لما هو قائم... فمعلوم أن رسالة الفنان لا تقف عند مجرد الإبداع بل هي موجهة إلى إنسان. ومعنى هذا أن العمل الإبداعي يبدأ من المجتمع وينتهي في المجتمع"[21]
ومن كل ما سبق ومن خلال قراءة العنوان ومدى ارتباطه بالنص عند ليلى العثمان يمكن أن نستشف بعض النقاط نوجزها فيما يلي:
1-إن صوت الحواجز أثقل كاهل ليلى العثمان لدرجة البكاء والعويل؛ ذلك أن تلك الحواجز هي موانع للوصول إلى الهدف المنشود, هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى فهي دليل السطو والجبروت والذي كانت أداته الغدر.
2-العلامة السردية هنا نراها في شيئين؛ الأول في التعبير من خلال الجمل المرتبطة بالعنوان والشارحة له والتي هي نتيجة لتلك الحواجز وقد ظهرت في أركان تلك المجموعة القصصية, وهي تعبر عن معاناة شعب أنَّ تحت وطأة المحتل, الذي تفنن في إذلاله بكافة الطرق ومنها حين وصلت إلى أحد الحواجز وهي تقود سيارتها فقال لها الجندي" الهوية. تفضل. انزلي. حاضر. اصعدي. حاضر. انزلي. حاضر . اصعدي. حاضر....." وهكذا من العبارات والأشياء التي يقصد منها الإذلال. أما الشيء الثاني والذي هو علامة سردية هو المحتوى والذي نراه من خلال واقعية الأحداث وتاريخيتها, وهو ما تجلى من تلك الحكايات المروية عبر الصفحات والتي ارتبطت بالعنوان ارتباطاً ينم عن شرح له وتوضيح دلالته.
3- إن الحاجز, وهو العنوان, دليل على وجود حاجزين عنده, ومن ثم ينبعث صوت الحراسة المشددة عند تلك الحواجز والخوف منها, والتي حجزت الهوية العربية, بل وطمست معالم القومية العربية, وهو ما حدث في أثناء الغزو والذي عبرت عنه ليلى العثمان من خلال العنوان, وهو الحواجز السوداء, وبالتالي فإن الصوت الذي يكاد يسمع هو صوت أنين شعبها.
4-يتضح من سميولوجيا العنوان وارتباطه بالمتن شيئان: الأول الأحداث الوصفية, وهي وصف لتلك الحواجز المخيفة, والثاني الأحداث الفعلية, والمرتبطة بالزمن, وهو هنا للماضي؛ حيث السرد اللاحق للأحداث التي مرت بها البلاد.
5-وقد كان العنوان عند ليلى العثمان من أجل وظائف معينة وأهداف خاصة ترمي إليها من خلال تعبيراتها وارتباطها بالمكان, ومن ثم نصل إلى شيئين؛ الأول يتمثل في وظيفة العنوان عندها والثاني يمثل دلالته في مجموعة الحواجز السوداء.
6-وظيفة العنوان عند ليلى العثمان تكمن في تعيين وتحديد الغاية من العنوان وقد تحققت تلك الوظيفة عند التحليل. وقد بينت الروائية ما الحواجز السوداء التي تعرضت لها هي وشعبها. فضلاً عن جذب الانتباه, فحين يطالع المتلقي لفظة الحواجز السوداء فإنه يسعى من أجل معرفتها. وكانت الدلالة العنوانية تكمن في دلالتين سياسية من خلال ما حدث للكويت في بداية التسعينيات. واجتماعية: حالة الناس من الارتباك وعدم استطاعة تدبير الاحتياجات. ونفسية في الخوف والفزع والهلع الواقع على أبناء الكويت.
ليلى العثمان والإهداء
صدَّرت ليلى العثمان الإهداء في الصفحة الثانية بعد الغلاف, وهو المعمول به منذ زمن قريب على العكس مما كان في السابق؛ حيث كان الإهداء يوضع في صفحة العنوان. وقد أشار جيرار جينت إلى أن الإهداء عادة ما يكون في الصفحة الثانية, وأدرج ذلك في معرض الإجابة عن سؤال طرحه قائلاً أين يضع المؤلف الإهداء ؟. " فمنذ نهاية القرن السادس عشر كان الإهداء يوضع في مقدمة الكتاب, أما اليوم وبطريقة أدق يوضع بعد صفحة العنوان. وفي المرحلة الكلاسيكية ـ كما لاحظناـ كان يوضع في صفحة العنوان" [22] إلا أنه, وعلى الرغم مما ذكره جيرار في هذا الشأن, فإن هناك بعض الكتاب يضعون الإهداء في الصفحة الثالثة, بعد أن يكونوا قد اقتبسوا قولاً لأحد المشاهير في العلم أو الأدب أو بيتاً من الشعر أو حكمة من الحكم, وهناك من لم يضع إهداء في روايته, كما فعل جمال الغيطاني في معظم رواياته, واكتفى بتصدير بعض الأقوال والتي نشم فيها رائحة الصوفية.
لقد قسَّمت ليلى العثمان إهداء مجموعة "الحواجز السوداء" إلى ثلاثة أقسام؛ وهذه الأقسام قد ربطتها بما حدث للكويتيين في أثناء الغزو العراقي, محاولة منها في تخفيف آلامهم وما أصابهم من ذهول نتيجة هذا الغزو الذي أفقد توازنهم, وأذلهم.
جاء في القسم الأول من الإهداء:
" إلى كل الكويتيين الذين كانوا في الغربة فعانوا مرارة الشوق والحنين لأرض كان الطاعون يسري في أوصالها فتقاوم.." [23]
دلالة الإهداء تكمن في الرغبة الصادقة لدى الكاتبة في تخفيف آلام الغزو على الكويتيين, فكان الإهداء لهؤلاء الذين يعيشون خارج الوطن؛ فعانوا في الغربة مرارة الحنين والشوق لأرضهم والعودة إليها؛ لذلك أتت ليلى العثمان بالاستعارة التصريحية في لفظة الطاعون لتظهر المعنى في صورة بيانية جمالية, لتشبيه هذا الغزو بالطاعون الذي ينتشر بسرعة فائقة. فكان الطاعون هو التعبير الدقيق له. فالطاعون له مرجعية تاريخية مقتبسة من رواية الطاعون, كما ذكرنا لألبيرت كامي و قد وظفتها بخبرة عالية من خلال إحدى القصص" الطاعون يفاجئ المدينة" وهو ما يدل على ارتباط الإهداء بالمتن. فالإهداء من خلال السطر ونصف السطر قد حمل إشارة التعاطف مع أولئك الذين يعيشون خارج الوطن, ثم تنتهي من الإهداء إلى من هم في الخارج لتنتقل إلى من تجذر في الأرض وأبى أن يخرج منها فتقول:
" إلى كل الكويتيين الذين تجذروا في الأرض المصابة ورفضوا الرحيل. فذاقوا مرارة الظلم والقهر والعذاب "[24]. ولو قصرت الإهداء للذين ظلوا في الأرض ولم يتركوها لكان الوضع أفضل؛ لأنهم هم الذين عانوا وبحق مرارة الغزو. إن الإهداء هنا من أجل الداخل على العكس من الجزء الأول من الإهداء حين كان لمن يعيش في الخارج وقد أصابه الحزن على بلده التي سُلبت, لذلك فإننا نرى العلاقة بين الداخل والخارج؛ وكأن ليلى العثمان تعمل على الترابط الوطني بين أولئك الذين يعيشون خارج الوطن وأولئك الذي صمموا على ألاَّ يتركوه وأبوا أن يخرجوا منه حتى في أحلك اللحظات, وهي لحظات الغزو , فكان الإهداء من أجل شد أزر الوطنيين؛ سواء أكانوا خارج وطنهم أم داخله. وقد وصفت الأرض بالمصابة وكأن الطاعون ( الاحتلال ) قد انتشر ودبَّ في أوصال جسدها. ولكن الباحث يرى أن لفظة الطاعون غير موفقة؛ ذلك أن الطاعون حين يحل بمكان فهو يبيد مَنْ فيه, ولكن الكويت ومَنْ فيها ظلوا بعد ذلك متذكرين تلك الذكريات, أي أن هناك من عاين الحدث وما زال يحيا ولم يمت.
وإذا نظرنا إلى هذا الإهداء سنجده مرتبطاً بالنصِّ ودل عمَّا بداخله وهو ما يستبان من خلال شبكة المقاطع السردية المنتشرة عبر ربوع المجموعة؛ حيث إن الحواجز السوداء بأكملها دلت على أن الذين بقوا في الداخل قد ذاقوا مرارة الظلم من قبل الغاصب المحتل؛ لأنهم تجذروا في الأرض التي أخرجتهم وترعرعوا فيها, وقد استخدمت ليلى العثمان في الجزأين الأولين من الإهداء بعض الألفاظ الدالة على ما يمور بداخلها ؛ فالطاعون مرض ينتشر بسرعة البرق كما انتشر الجيش العراقي في أوصال وطنها, وكذلك لفظة تجذروا وهو من الجذر الدال على العمق والمتانة ومدى الارتباط بهذه الأرض.
فالإهداء بما هو مفتاح آخر من مفاتيح العمل التي تضيء جوانبه وتسعى من أجل فك غموضه, هو في الوقت نفسه, يبرهن على العلاقة التي تربط الكاتبة بالمهدى إليهم, فهم أبناء وطنها الذين يستحقون هذا الإهداء, خاصة في أوقات احتاجت إلى تكاتف الروح الوطنية من أجل الخلاص من أي شيء قد يعكر صفو أبناء هذا الوطن, فإهداء ليلى العثمان فيه نوع من الخصوصية, والتي اتضحت من خلال أركان المجموعة القصصية.
أما الجزء الثالث من الإهداء فكان للأجيال القادمة, والتي لم تر هذا الغزو, وأرادت الكاتبة أن تؤرخ له بأن تقدم النصيحة لهؤلاء النشء, وفي الوقت نفسه تفضي إليهم بالعلة من هذه النصيحة؛ لأن هذه الأرض لهم وهذه السماء لهم, وهي في طريقها إلى هذه النصائح طالبتهم بشيء مهم يجب أن يعملوا ويسهروا عليه, وهو أن يظلوا حراساً لهذا الوطن, فتقول:
" وإلى أجيال الكويت القادمة:
ازرعوا النخلة..
اعشقوا الرملة..
افرشوا قلوبكم سداً في وجه الموجة
هذا التراب لكم
هذه السماء لكم
ولتبقوا دائماً حراساً للوطن
جمعت ليلى العثمان المهدى لهم في أجزاء الإهداء الثلاثة للتعميم, فهي لم تخصص الإهداء لفئة دون أخرى, وهذا يدل على وعيها بشيء مهم سائد في المجتمع الكويتي, وهو أن المجتمع الكويتي به طوائف مختلفة وشرائح متعددة؛ حيث يوجد جموع كبيرة من الشيعة؛ فضلاً عن أهل السنة, وبالتالي فهي واعية بكل حرف تكتبه؛ لأن الوطن للجميع. ومن ثم فإن خصوصية الإهداء, تكمن في أن ليلى العثمان جعلته لكل الكويتيين, أي لأهل بلدها فحسب, دون أن تتخطى الحدود الجغرافية, ولو جعلته لأي أرض كانت ولأي مناضلين كانوا لكان أعم وأشمل وأفضل, ولكنها خصَّت هذا الإهداء بأولئك أصحاب هذه الأرض, من سنة وشيعة وغيرهما.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما العلاقة بين المُهدَى لهم العمل والعمل نفسه؟ وما العلاقة بين المهدى لهم العمل والكاتبة ليلى العثمان؟. فأما العلاقة بين المهدى لهم العمل والعمل فهي علاقة ترابط بين الحواجز وأهل البلاد؛ لأن الحواجز خصصت لهم من أجل الإذلال فالعلاقة علاقة مشاركة بما كان وما ترك من آثار نفسية على الجميع, فالكل تحمل المشاركة في الدفاع عن الوطن وما نجم عنه من إهانات تركت آثارها حتى الآن.
إلا أن الكاتبة وبلمحة دقيقة جعلت الإهداء إلى العام والخاص؛ فالعام هنا أقصد به جموع الكويتيين, سواء أكان في الجزء الأول أم الثاني من الإهداء, ثم خصصت في الجزء الثالث من الإهداء لمجموعة من الأجيال القادمة الذين سيقرؤن التاريخ ويعرفون ما حدث لآبائهم وأقاربهم, كي تعطيهم دفعة في الصمود أمام الموجات القادمة, بحكم أن الكويت دولة نفطية ونظرات الطمع لن تنقطع, بل ستظل.
لذلك نرى معجمها اللغوي السردي والذي حوى بين طياته دلالاته السيميولوجية؛ حيث أوردت مجموعة من الألفاظ كي تبعث بها الأمل في نفوس أبناء وطنها من الأجيال القادمة, فعمدت إلى ذكر النخلة والتي لها ارتباط بالأمة العربية والصبر على العيش من خلال التمر الذي كان يقتاد به الأجداد, تلك النخلة التي اعتمد عليها العرب طوال حياتهم , والنخلة مرتبطة أيضاً بالأرض التي بها الرمل والتراب, فهي تؤكد لهم الارتباط بالأرض والسماء التي فوقهم, على أن تقف قلوبهم كالموجة في وجه أي معتد. وهو ما ينبئ بثقافتها الدينية؛ فالنخلة هي أفضل الشجر عند الله, فهي مثل الكلمة الطيبة التي تُؤثِر الآخرين.
وظيفة الإهداء عند ليلى العثمان
إن الإهداء بما هو أيقونة لغوية تتقدم المتون النصية من أجل وظيفة أو وظائف مختلفة يقصدها ويعمد إليها الكاتب. تكمن وظيفته عند الكاتبة في التعيين والتحديد؛ حيث عمدت الكاتبة إلى تحديد من تقصد بالإهداء, وهم أهل الكويت الذين كانوا في خارجها وتجرعوا مرارة البعد عن الوطن وقت المحنة, والذين كانوا بداخلها وذاقوا الويلات من خلال تلك الحواجز السوداء, فضلاً عن إعمال وظيفة جديدة من وظائف الإهداء, وهي التعليم من خلال تقديم بعض النصائح للأجيال القادمة من أجل المحافظة على هذا الوطن والذي تنشد له الكاتبة الفضيلة في كل وقت.
الكاتبة, إذاً, جعلت الإهداء جزءاً من الحواجز, والتي يجب أن تكسر وتنتهي بنصائح الأجيال القادمة حتى لا يتكرر ما حدث لها وأهلها من ظلم ذاقت ويلاته هي وأبناء وطنها؛ لذلك فقد احتفت ليلى العثمان بهؤلاء الكويتيين الذين تجذروا في الأرض وأبوا أن يخرجوا منها من أجل الدفاع عنها وعن كرامتهم, وهو الأمر الذي ألحت عليه الكاتبة في كل المجموعة القصصية التي نحن بصددها, فهي حريصة على أن الأدب يقوم بهدفه الأساسي, وهو خدمة المجتمع, خاصة وأن الرواية بشكل عام تسعى من أجل إظهار المجتمع أولاً والدفاع عنه ثانياً, كما هو الحال عند كتاب كثيرين. ففي فرنسا كتب غوستاف فلوبير رواية مدام بوفاري ليعرِّي المجتمع الفرنسي ويظهره على حقيقته من خلال هذه السيدة والتي كانت تنشد الكمال في كل شيء, وكانت هذه التعرية من أجل إظهار ذلك المجتمع, كما فعل نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة التي عرى فيها المجتمع المصري وكشف عما كان مستوراً.
الإهداء في الأصل من أجل الاحتفاء بالمهدى إليه العمل وتقديم التقدير له, لأنه يستحق التقدير والإعجاب من قبل الكاتب الذي يهدي العمل, وهل هناك تقدير أسمى من الذين يدافعون عن أوطانهم, فالإهداء يحوي بداخله دلالات عميقة وإيحاءات بعيدة تفهم وتعرف من خلال قراءة العمل نفسه, وفهم ما فيه من تعاليم خاصة بالمجتمع, مع الإلحاح على الوجود الدائم للأمل المنشود.
ومن هنا فقد حمل الإهداء عند ليلى العثمان دلالات عميقة منها؛ حبها الدفين لوطنها فهو متغلغل في شخصيتها. رؤيتها المستقبلية لأبناء وطنها جعلتها تنصحهم. المحافظة على التراث والتاريخ من أهم ما تسعى إليه. تسلسل الإهداء؛ حيث نرى الطاعون يأتي ليصيب الأرض, ثم تطلب زراعة النخلة لتحملهم على الصبر؛ حتى تشفى الأرض من الأسقام, والوقوف في وجه كل المعتدين.
عتبـــة المؤلـــف
الدكتور جميل حمداوي
المغرب العربي
تندرج عتبة المؤلف ضمن ملحقات النص الموازي، وتعد من أهم عناصر عتباته المحيطة. فالمؤلف هو منتج النص ومبدعه ومالكه الحقيقي. ومن ثم، فهو يشكل مرآة لنصه من الناحية: البيوغرافية ، والاجتماعية، والتاريخية، والنفسية إن شعوريا وإن لاشعوريا.
وتعد عتبة المؤلف أيضا من الوحدات الدالة المشكلة لتداولية الخطاب، ومن أهم الخطاطات التقبلية التي تحاور أفق انتظار القارئ، فتشده انتشاء ولذة، ثم تجذبه إلى استكناه مضمون النص واستطلاعه، وتذوق بناه الجمالية والذرائعية. وهي كذلك من أهم العلامات المكونة للخطاب الغلافي على مستوى التشكيل المعنوي والبصري، وخاصة إذا كان اسم المؤلف مصحوبا بصورته الفوتوغرافية. وترتبط صورة المؤلف بالنص الإبداعي ارتباطا مباشرا عبر جدلية الإضاءة والتفاعل الدلالي. ومن ثم، فاسم المؤلف يزكي " شرعية النص" إذا صح التعبير. فالنص الذي لايعلن عن صاحبه أو مؤلفه، أو قد يكون موقعا من لدن كاتب مغمور، فإن ذلك لايساعد القارئ أو المتلقي على الإقبال عليه؛ لأن الأسماء اللامعة للكتاب المشهورين لها دورها الرئيس في استقطاب أذهان القراء، واستغوائهم وجدانيا. فهي بمثابة الإعلان الذي يكسب رهانه مسبقا. ومن ثم، فاسم الكاتب يؤدي وظيفة تعيينية وإشهارية، تكمن في نسبة العمل أو الأثر إلى اسم ذائع الصيت،معروف بأبحاثه الوصفية أو الإبداعية، ويدل على حضوره المكثف في الساحة الثقافية المحلية والوطنية و الدولية ورقيا ورقميا وإعلاميا.
هذا، وقد عرف تاريخ اسم المؤلف عدة محطات نقدية ، يمكن حصرها في أربع مراحل أساسية ، وهي:
1- مرحلة المؤلف.
2- مرحلة موت المؤلف.
3- مرحلة القارئ، وإزاحة المؤلف.
4- مرحلة عودة المؤلف( le retour de l’auteur).
وسنحدد كل مرحلة على حدة ، بغية معرفة تصوراتها النظرية والفلسفية، وموقفها من الكاتب أو المؤلف.
1- مرحلـــة المؤلـــــف:
من المعلوم أن للمؤلف أهمية كبرى في الثقافات القديمة: العربية والغربية منها على السواء. فقد ركز النظر النقدي منذ عهد الإغريق على المؤلف و الإبداع ( النص) على حد سواء، دون أن يولي اهتماما حقيقيا لدور المتلقي في فهم النص، وتلقي رسالة المبدع، على الرغم من اهتمام النقد اليوناني بوظيفة الإبداع، وأثرها على القارئ أو المتلقي، من خلال نظرية المحاكاة عند أفلاطون وأرسطو، وأثرهما أيضا من الناحية الخلقية على التهذيب أو التعليم أو التطهير. بيد أن الاهتمام لم يتعد ذلك إلى مشاركة القارئ في قراءة النص أو شرحه أو تفسيره. ويذهب رولان بارت إلى أن :" المؤلف شخصية حديثة النشأة. وهي من دون شك وليدة المجتمع الغربي. فقد تنبه الغرب إلى قيمة الفرد أو الشخص البشري منذ نهاية القرون الوسطى، و كذلك مع ظهور العقلانية الفرنسية، وانبثاق النزعة التجريبية الإنجليزية ، وانتشار الإيمان الفردي الذي واكب حركة الإصلاح الديني . كما أولت الرأسمالية الغربية أهمية قصوى لشخصية المؤلف"[25]
وهكذا، فقد أولت النزعة الإنسية الأوربية المؤلف منذ عصر النهضة اهتماما كبيرا. ويعزى ذلك إلى عدة عوامل ذاتية وموضوعية، تتمثل في ظهور الكلاسيكية التي تمجد الإنسان المتخلق، والرومانسية التي تجعل من الفرد محورا لها، بالإضافة إلى ظهور البورجوازية التي أعطت أهمية قصوى للفرد المنتج والمبدع، والنظرية اللاتوجيهية في مجال التربية التي نادت بحرية المتعلم في التعلم والاشتراك والخلق ، بله عن مبادئ حقوق الإنسان التي عبرت عنها الثورة الفرنسية، وهي تمجد الفرد أخوة ومساواة وعدالة.
هذا، وقد رفضت الخطابات الأدبية والعلمية والنقدية في أوربا الاستغناء عن المؤلف بأي شكل من الأشكال؛ نظرا للدور الهام الذي يقوم به في عملية إثبات الانتماء، وتأكيد الهوية، وإضفاء الانتساب الجينيالوجي الحقيقي للإبداع أو العمل المنشور. فهذا ميشيل فوكوM.Faucault يرجع أصول المؤلف في أوروبا إلى القرن السابع عشر الميلادي، ليعلن بأن:" مبدأ المؤلف يحد من عشوائية الخطاب بفعل هوية اتخذت شكل الفردية والأنا"[26]. ومن ثم، صار الأنا مبدأ يجمع الخطاب، ويشكل وحدة معانيه وأصلها[27]. أي: إن قيمة المؤلف( بكسر اللام) أعلى من قيمة المؤلف بفتح اللام.
ومن جهة أخرى، يضمن " المؤلف" للعمل الأدبي اتساقه وانسجامه ووحدته الدلالية والتأليفية والسياقية. فعن طريق رصد بيوغرافيته وأعماله، يتمكن المحلل من فهم النصوص وتأويلها شرحا وتفسيرا، فيتم ذلك بواسطة استنطاق الظروف السياقية، واستكشاف السيرة توثيقا وتحقيبا، واستذكار مدلولات الأعمال الأخرى تناصيا، وكل ذلك لفهم كل مايوجد تحت مجهر التشريح والدراسة والاختبار. واهتمت عدة مناهج نقدية بالمؤلف، كالمنهج النفسي، والمنهج التاريخي، والمنهج الاجتماعي، والمنهج التكويني، والنقد التأويلي... وغالبا ما يتم التشديد في هذه المناهج النقدية على حياة المبدع، وطفولته، وكهولته، ووسطه الاجتماعي، وثقافته، وعلاقاته، وأمراضه، وعقده، وأسراره... وهكذا أصبح : " ينظر إلى المؤلف على أنه مايسمح بتفسير وجود أحداث معينة في نتاج ما، وما يفسر تحولاتها وانحرافاتها وتغيراتها المختلفة، وذلك عبر سيرة حياته، ورصد وجهة نظره الفردية، وتحليل انتمائه الاجتماعي، وموقفه الطبقي ، واستخراج مشروعه الأساسي. إنه المبدأ الذي يسمح بتذليل التناقضات التي يمكن أن تظهر في سلسة من النصوص. ".[28]
زد على ذلك، فقد عمل المجتمع الرأسمالي على تثبيت هوية المؤلف بشتى الوسائل، كتشريع حقوق المؤلف، وتحديد العلاقات بين المؤلفين والناشرين، وضبط حقوق إعادة الطبع... ولا ننسى كذلك أن جوستاف لانصون (G.Lanson) وتين(Taine) ركزا على ما يسمى بدكتاتورية المؤلف. وكان لهما تأثير كبير على النقد العربي الحديث من بداية القرن العشرين إلى منتصفه؛لأن المؤلف مالك الأثر الأدبي، وصاحب العمل الفني . وبالتالي، على علم الأدب أن يتعلم كيف يحترم المخطوط، ويراعي نوايا المؤلف، وعلى المجتمع أن يسن قوانين تضبط العلاقة بين المؤلف وأعماله من خلال قانون " حقوق المؤلف" ، وهي قوانين حديثة العهد، حيث إنه لم تتخذ شكلها القانوني إلا مع الثورة الفرنسية.[29]
ومازال المؤلف حاضرا – حسب رولان بارتR.Barthes- في مطولات تاريخ الأدب ، وترجمات الكتاب، واستجوابات المجلات، بل ويتجلى هذا الحضور حتى في وعي الأدباء الذين يحرصون على ربط أشخاصهم بأعمالهم ، وذلك عن طريق مذكراتهم الشخصية. هذا، وقد استند النقد الأوربي الكلاسيكي لمدة طويلة على مرآة المؤلف في تأويل النصوص، وتوثيقها بالاعتماد على منظور الوسط،ومقترب الشعور واللاشعور. لذا، فصورة الأدب التي يمكن أن نلفيها في:" الثقافة المتداولة تتمركز أساسا حول المؤلف، وشخصه ، وتاريخه، وأذواقه ، وأهوائه، ومازال النقد يردد في معظم الأحوال – يقول رولان بارت- بأن أعمال بودلير وليدة فشل الإنسان بودلير، وأن أعمال فان ﮔوخ وليدة جنونه، وأعمال تشايكوفسكي وليدة نقائصه. وهكذا يبحث دوما عن تفسير للعمل جهة من أنتجه، كما لو أن وراء مايرمز إليه الوهم بشفافية متفاوتة، صوت شخص وحيد بعينه هو المؤلف الذي يبوح بأسراره."[30]
وإذا انتقلنا إلى الثقافة العربية الكلاسيكية ، فهي بدورها تمجد الفرد، وتحترم الملكية، وتحارب كل مظاهر النحل، والانتحال، والسرقة، والادعاء، والإغارة ، ولوكان ذلك كله تناصا. إذاً، فالثقافة العربية الكلاسيكية ترفض أي غياب للمؤلف، فلا بد من هويته الحضورية. ولكي يعد النص نصا ينبغي أن يصدر عنه، أو يرقى به إلى قائل يقع الإجماع على أنه حجة. حينئذ يكون النص كلاما مشروعا ينطوي على سلطة، وقولا مشدودا إلى مؤلف- حجة. و" يظل الخطاب مجال اهتزاز مقلق ، واستعداد احتمالي متوحش، ولن يوقف هذا التساؤل المحير ، ويحدد دلالة الخطاب العائمة، إلا الانتساب إلى اسم بعينه، فكأن الخطاب ، إن لم يحمل اسم مؤلفه، ميكون مصدر خطورة، ويصير أرضا غريبة ، تحار فيها الأقدام، وتختلط الاتجاهات لغياب نقطة مرجعية مضمونة. وهكذا، يدرك الخطاب انطلاقا من الاسم الذي يوقعه. فالقطعة الشعرية تدرك انطلاقا مما نعرفه سابقا عن مؤلفها، والنادرة يختلف مفعولها بحسب نسبتها إلى ماجن أو رجل متزمت".[31]
ومن المعروف أن علماء العربية وأدباءها القدماء كانوا لايتعاملون إلا مع نصوص مؤلف حجة. يقول عبد الفتاح كيليطو:" من بين العوامل المحددة للنص غموض الدلالة - كما أسلفنا-، وكذلك نسبة القول إلى مؤلف معترف بقيمته. أي: مؤلف يجوز أن تصدر عنه نصوص. ليس بإمكان أي واحد أن تعتبر أقواله نصوصا. فإذا كان الكلام لايحصى، فإن النصوص- كما يقول ميشيل فوكو- نادرة. ومن جملة الأسباب التي تفسر هذه الندرة، وجوب تحقيق شروط دقيقة لايمكن بدونها أن يصير شخص ما مؤلفا يعتد بكلامه."[32]
وأهم مرحلة في حياة المؤلف الحجة هي :" لقاؤه مع شيوخه لقاء مع من لهم الصلاحية، ومن يعول عليهم في تبليغ النصوص. وبعد هذا اللقاء يمكنه، إذا أجازوه، أن يصبح في مستواهم، وأن يبلغ بدوره النصوص التي تلقاها عنهم... فسواء كتب شعرا أو رسالة أو كتابا أو اكتفى بترديد ما حفظ، فإنه يمتلك نفوذا كبيرا؛ لأنه يصبح أحد الأعمدة التي ترتكز عليها الثقافة، يعني أنه يفوه بنصوص تنضاف إلى النصوص الأخرى المكونة للثقافة. والتحول الذي يحدث لقائل عندما يصبح مؤلفا حجة يظهر حتى في اسمه الذي ينسى ويبدل باسم آخر... فكأن المؤلف عندما يصبح حجة، يولد من جديد، ويطلق عليه اسم جديد.". [33]
وعلاوة على ذلك، فقد سبب التناسخ التناصي، واجترار الأقوال، وتجميعها في مصنف واحد، في تغييب المؤلف الحقيقي، وإخفائه حتى صار من الصعب تحديده، أو تمييز أسلوب مؤلف ما، كما هو حال كتاب : " العمدة" لابن رشيق القيرواني و كتاب: " المقدمة" لابن خلدون مثلا. وفي هذا الصدد، يقول كيليطو:" إن القارئ الذي يسعى لمعرفة مؤلف نص، يعمد إلى تحديد الخصائص الأسلوبية التي ينطوي عليها النص، فتقوده إلى اسم هذا المؤلف أو ذاك (...)، بيد أنه من العسير الحديث في الثقافة العربية الكلاسيكية عن أسلوب خاص يميز فردا بعينه".[34]
ولقد استمر الاهتمام بالمؤلف بصفته ذاتا عليا في الإبداع والإنتاج وتوثيق النصوص إلى أن ظهرت اللسانيات والبنيوية المغلقة لتعلن موت المؤلف. وعلى الرغم من ذلك، فثمة ثلاث مقاربات لفهم شخصيته:
أ-المقاربة الاقتصادية: وتسعى إلى ربط المؤلف شعوريا ولاشعوريا بفئته الاجتماعية التي ينتمي إليها طبقيا: بروليتاري- بورجوازي- بورجوازي صغير. وهي التي يستعملها النقد الإيديولوجي في كتاباته الوصفية والتحليلية، وخاصة النقد الواقعي الجدلي والبنيوية التكوينية.
ب- المقاربة القانونية: وتستند إلى بنود القوانين للتشديد على حقوق المؤلف.إذ تنص الاتفاقية العالمية الموقعة بجنيف بتاريخ :6 أيلول 1952م، والمعدلة في باريس بتاريخ:24 تموز 1971م في مادتها الأولى على اتخاذ:" كل التدابير اللازمة لضمان حماية كافية وفعالة لحقوقهم".[35]
ت- المقاربة الأدبية: ترى هذه المقاربة بأن النص بمثابة مرآة تعكس صاحبها ذاتيا أوموضوعيا، علاوة على أن المؤلف له صوت خاص وأسلوب معين في الكتابة كما قال بوفونBuffon :"الأسلوب هو الرجل نفسه".
وبعد هذا، ننتقل للحديث عن موت المؤلف في مرحلة النص المغلق أو في فترة البنيوية اللسانية والسيميائية.
2- مرحلة موت المؤلف:
أعلنت البنيوية والسيميوطيقا معا موت المؤلف والمرجع، واستبدلتهما بالنص أو العلامات اللغوية والبصرية. فإذا كانت البنيوية تقوم على التفكيك والتركيب، وتركز على النص في انغلاقه النسقي، فإن السيميوطيقا- باعتبارها علما للعلامات السمعية والأيقونية- لاتبالي بالمؤلف، ولا بما يقوله النص، ومايهمها كيف قال النص ماقاله. أي: مايهم هو شكل المضمون. ومن ثم، تستند مناهج المحايثة إلى ثلاثة ثوابت منهجية:
أ- التحليل البنيوي.
ب-التحليل المحايث.
ج - تحليل الخطاب[36].
وتسير في الاتجاه نفسه دراسات الشكلانيين الروس التي تروم استكناه ثوابت النص، ورصد بناه العميقة في علاقتها بمظاهرها السطحية. وهكذا، أقصت البنيوية بصفة عامة الإنسان والتاريخ، وذلك باسم البنية، والنظام، واللغة، والنسق، والعلامات. وقد أثبت الأنتروبولوجيون أن الحكاية في المجتمعات الإثنوغرافية لايتكفل شخص بعينه بنقلها، بل يوجد رواة جماعيون.
ومن الواضح كذلك أن بعض الكتاب حاولوا خلخلة مملكة المؤلف منذ أمد طويل، ففي فرنسا، يعتبر ملارميMallarmé بلا شك أول من تنبأ بضرورة إحلال اللغة ذاتها محل من كان حتى ذلك الوقت يعد مالكا لها. فاللغة في رأيه هي التي تتكلم، وليس المؤلف، فالنقد عند مالارمي يدور بمجموعه حول إلغاء المؤلف لصالح اللغة والكتابة. ويدخل فاليري Valery ، الذي لم يكن يشعر بالارتياح داخل سيكولوجيا الأنا، بعض التغيير على نظرية ملارمي. ولكن بما أن ميله إلى إلى النزعة الكلاسيكية كان يشده إلى دروس البلاغة، فإنه لم يتورع عن وضع المؤلف موضع سخرية واستهزاء وشك، ملحا على الطبيعة اللغوية والعفوية لعمل المؤلف، ومؤكدا، من خلال كتاباته النثرية، الطبيعة اللفظية للأدب، تلك الطبيعة التي كان يبدو معها أي لجوء إلى دواخل الكاتب مجرد خرافة. و أزال بروست عن المؤلف سلطته العظيمة ، على الرغم من الطابع النفسي الظاهر في تحليلاته، إذ أدخل تشويشا بلا هوادة على المنظور والسرد والعلاقة التي تربط الكاتب بشخصياته.[37]
لقد أمد بروست الكتابة الحديثة بملحمتها التي تعتمد على انقلاب جذري في مجال الكتابة السردية، ولاسيما في روايته " بحثا عن الزمن الضائع". وعوض أن يضع حياته في أعماله كما يقال عادة، فإنه جعل من حياته نفسها عملا أدبيا كان كتابه نموذجا عنها.[38]
ومن جهة أخرى، فقد ساهمت الحركة السريالية في نزع الطابع القدسي الذي كانت تتخذه صورة المؤلف، مادامت تقول بمبدإ الكتابة المتعددة على مستوى التأليف.[39]
وكانت الشكلانية الروسية السباقة إلى إقصاء المؤلف وعزله، والبحث عن النظام والبنيات الثاوية وراء الاختلاف فوق السطح النصي. ومن أهم أسس هذه الشكلانية الإنشائية أنها أدت باستقلال علم الأدب عن العلوم الإنسانية الأخرى ؛ لأن شعرية النص بعيدة في نظرها : " كل البعد عن أن تحتل الدور فيها المباحث النفسية والاجتماعية وغيرها مما له علاقة بالمؤلف المبدع والقارئ المتلقي. وهكذا، طردت الشكلانية من عالمها النقدي ومنهجها التحليلي المؤلف. فللقبض على شعرية النص، لامجال للاعتماد على حياة المؤلف ونفسيته وصدقه أو كذبه وإلهامه، ولا لدراسة بيئته وجنسه، ولا للذاتية وأحكام القيمة، ولا لتقمص الناقد بأحكامه المعيارية تحسينا أو تقبيحا دور شخصية الرقيب، وصاحب السلطة الجمالية المتحكمة في المبدع والمتلقي؛ لأن نقدا من هذا القبيل لايمكنه أن يحل محل تحليل علمي موضوعي لفن اللغة ووصفها".[40]
وهكذا، فقد حكمت اللسانيات والبنيوية على المؤلف بالإعدام والموت، حينما ركزت على الدال والمدلول، فأقصت المرجع، وكل ماهو مادي خارجي عن المعطى اللغوي. وقد :" مكنت عملية تقويض المؤلف من أداة تحليلية ثمينة، وذلك عندما بينت أن عملية القول، وإصدار العبارات، عملية فارغة في محمولها، وأنها يمكن أن تؤدي دورها على أكمل وجه، دون أن تكون هناك ضرورة لإسنادها إلى المتحدثين. فمن الناحية اللسانية، ليس المؤلف إلا ذلك الذي يكتب، مثلما أن الأنا ليس إلا ذلك الذي يقول أنا: إن اللغة تعرف الفاعل، ولا شأن لها بالشخص. وهذا الفاعل الذي يظل فارغا خارج عملية القول التي تحدده، يكفي كي تقوم اللغة. أي: كي تستنفذ.[41]
ويعد رولان بارت من النقاد الذين أعلنوا إفلاس المؤلف، فقد خاض صراعا ضد ريمون بيكار في كتابه: " النقد والحقيقة"[42]، مدافعا عن النقد الجديد الذي لايؤمن بسلطة الكاتب، مادام التناص يتحكم في النصوص الإبداعية، ومادام البحث عن المؤلف بحثا عن الناقد وإغلاقا لكتابة، وإعطاء مدلول نهائي للنص . فالنص لاينشأ عن:" رصف كلمات تولد معنى وحيدا، معنى لاهوتيا إذا صح التعبير (هو رسالة" المؤلف الإله")، وإنما هو فضاء متعدد الأبعاد، تتمازج فيه كتابات متعددة وتتعارض، من غير أن يكون فيها ماهو أكثر من غيره أصالة: النص نسيج من الاقتباسات، تنحدر من منابع ثقافية متعددة. إن الكاتب لايمكنه إلا أن يقلد فعلا هو دوما متقدم عليه، دون أن يكون ذلك الفعل أصليا على الإطلاق".[43]
ومن هنا، فالبحث عن المؤلف هو قتل للنص، واغتيال للذته، ومنع لتعدد دلالاته، وتحنيط قسري لوظيفته الجمالية. فعندما يبتعد المؤلف ويحتجب، فإن الزعم بالتنقيب عن: " أسرار النص يغدو أمرا غير ذي جدوى، ذلك بأن نسبة النص إلى مؤلف معناها إيقاف النص، وحصره، وإعطاؤه مدلولا نهائيا. إنها إغلاق الكتابة. وهذا التصور يلائم النقد أشد ملاءمة، إذ إن النقد يأخذ على عاتقه حينئذ الكشف عن المؤلف من وراء العمل الأدبي. وبالعثور على المؤلف، يكون النص قد وجد تفسيره، والناقد ضالته. فلا غرابة – إذاً- أن تكون سيادة المؤلف من الناحية التاريخية هي سيادة الناقد. كما لاغرابة أن يصبح النقد اليوم، حتى ولو كان جديدا، موضع خلخلة، مثل: المؤلف. فالكتابة المتعددة لاتتطلب إلا الفرز والتوضيح، وليس فيها تنقيب عن الأسرار[44]. فضلا عن ذلك، يقوم موت المؤلف عند رولان بارت بوظيفة ثلاثية:
أولا، يسمح بإدراك النص في تناصه.
ثانيا، يبتعد بالنقد عن النظر في الصدق والكذب.
ثالثا، يفسح المجال لتموضع القارئ ،إذ إن مولد القارئ يجب أن يدفع ثمنه انسحاب المؤلف.
إذاً، فالبنيوية بجميع تياراتها: الشكلانية الروسية، والبنيوية اللسانية، والسيميوطيقا، والمورفولوجيا الألمانية ، نزعة متعالية، تلغي التاريخ، وتستلب الإنسان، وتقيده بإسار النسق والبنية والنظام والعلامات. ولكننا سننتقل مع مرحلة ما بعد البنيوية( جنيت، تودوروف ، كريستيفا، بارت)، إلى مرحلة أخرى، و هي مرحلة القارئ ، مادام بارت يؤكد أن" ميلاد القارئ رهين بموت المؤلف".[45]
3- مرحلة القارئ، وإزاحة المؤلف:
إذا كانت البنيوية اللسانية قد أغفلت المؤلف والطبقة الاجتماعية والتاريخ،وكل مايمت بصلة إلى المرجع ، فإن البنيويين الجدد(التفكيكيون والشكلانيون الجدد)، مثل: تودوروف ، ودريدا، وكرستيفا ، ورولان بارت، قد أولوا أهمية بالغة للقارئ؛ لما له من دور هام في فهم النص وتفسيره وتأويله. وقد ظهرت نظريات كبرى تركز على أهمية القارئ، مثل: النظريات الاجتماعية،ونظريات التخاطب، ونظريات الاتصال.
ومن الإشارات الأولى إلى دور القراء ما نجده في النقد الأدبي الإنجليزي على عهد إدغار ألان بو(Edgar Allen Poe) ، وما كتبه شارل بودلير(CH.Baudlaire)، والشاعر الرمزي فاليري الذي قال:"لأشعاري المعنى الذي تحمله عليه".[46]
ولقد برزت العناية الحقيقية بالقارئ مع سوسيولوجية روبير إسكاربيت(Robert Escarpit)، الذي كان يرى الكاتب:" إنما يكتب لقارئ أو لجمهور من القراء، فهو عندما يضع أثره الأدبي، يدخل به في حوار مع القارئ. وللكاتب من هذا الحوار نوايا مبيتة يريد إدراكها، فهو يرمي إلى الإقناع أو إلى المد بالأخبار أو الإثارة أو التشكيك أو زرع الأمل أواليأس. ومما يبرهن على أن الكاتب يرمي بالإنشاء الأدبي إلى ربط الصلة بالقارئ أنه يعمد إلى نشر أعماله. ومن هنا رأى إسكاربيت أن حياة الأعمال الأدبية تبدأ من اللحظة التي تنشر فيها، إذ هي، في ذلك الحين تقطع صلتها بكاتبها لتبدأ رحلتها مع القراء".[47]
وترتكز سوسيولوجية إسكاربيت على البحث في الشروط المادية والنفسية والمؤسسية لمباشرة القراءة. وهنا، يتفق إسكاربيت مع جان بول سارتر(Sartre) الذي" أكد أن الجمهور للأثر انتظار، وهو يعني بذلك أن الأثر يحيا، قبل اتصاله بالجمهور، حياة تقديرية، فهو، قبل النشر، موجود بالقوة، وهو بعد النشر، موجود بالفعل..."[48]
ومن أهم نظريات القراءة نجد: القراءة الفينومنولوجية مع جان بول سارتر التي وضحها في كتابه:( ما الأدب؟). ففيه يقدم إجابة كاملة عن القراءة، وماهية الكتابة، ووظيفتها من خلال تفاعل الذات مع الموضوع، و القراءة التجريبية مع روبير إسكاربيت، وجاك لينهاردت J. Leenhardt، وبيير جوزا Pierre Joza، وشعرية القراءةمع ميشيل شارلM.Charles ، ونظرية التقبل مع ياوس Yaussوإيزر Iser(مدرسة كونستانس)، أو مايسمى أيضا بجمالية القراءة، وسيميولوجية القراءة مع رولان بارت وأمبرطو إيكو[49]. وثمة نظريات أخرى، مثل : نظرية التخاطب حيث يتوقع المرسل (الأديب) من القارئ : " أن يقوم بالتأويل أثناء القراءة، وينتظر منه أن يثري البلاغ الأدبي بإضافات شخصية من عنده يسلطها عليه. ولأن التخاطب الأدبي غامض في أساسه، يعمد القارئ، كلما واجه نصا أدبيا، إلى امتحانه، فاختبر قدراته على تحمل المعاني الإضافية، بموجب ماركب فيه من مواطن غامضة تتحمل التأويل. ومن هنا، كان الأثر الأدبي في نظرية التخاطب، أثرا مفتوحا، يستدعي التأويلات العديدة ويتقبلها ، فيزداد بها ثراء على ثرائه".[50]
وتعتبر جمالية التقبل من أهم النظريات المعاصرة التي اهتمت بالقارئ والقراءة، ونشأت هذه النظرية في ألمانيا الغربية، وتنسب لجامعة كونستانس، ومن ممثليها ياوس وإيزر. وقد بلورت هذه المدرسة مجموعة من المفاهيم الأساسية كأفق الانتظار، والمسافة الجمالية، والقارئ الضمني، وفعل القراءة، والقطب الفني، والقطب الجمالي، ومرحلة استجماع المعنى، ومرحلة الدلالة.
ولا ننسى كذلك سيميولوجية القراءة مع رولان بارت التي اهتمت بالقارئ والقراءة ولذة النص، واعتبر بارت أن الناقد الجديد ليس سوى قارئ ، فما عليه إلا أن يعيد إنتاج النص مرة أخرى، وينبغي للمؤلف أن ينسحب ليحل القارئ محله. فالنقد – إذاً- في نظره قراءة، وميلاد القارئ مرتبط بموت الكاتب. ومن هنا، يتألف النص:" من كتابات متعددة، تنحدر من ثقافات عديدة، تدخل في حوار مع بعضها البعض، وتتحاكى وتتعارض، بيد أن هناك نقطة يجتمع عندها هذا التعدد. وليست هذه النقطة هي المؤلف، كما دأبنا على القول، وإنما هي القارئ: القارئ هو الفضاء الذي ترتسم فيه كل الاقتباسات التي تتألف منها الكتابة، دون أن يضيع أي منها، ويلحقه التلف. فليست وحدة النص في منبعه وأصله، وإنما في مقصده واتجاهه. بيد أن هذا الاتجاه لم يعد من الممكن أن يكون شخصيا: فالقارئ إنسان لاتاريخ له ولا حياة شخصية ولا نفسية. إنه ليس إلا ذاك الذي يجمع فيما بين الآثار التي تتألف منها الكتابة داخل نفس المجال".[51]
هذه –إذاً- أهم النظريات حول القراءة والقارئ، وتبيان لدورها في انبناء النص، واستهلاكه، والتلذذ به، وإعادة إنتاجه. وقد تكون القراءة منغلقة أومنفتحة ، وذلك حسب مرجعيات القارئ الثقافية وظروفه النفسية والاجتماعية.
4- عــــودة المؤلف:
على الرغم من تلك النداءات التي تدعو إلى موت المؤلف، واستبداله بالنص والقارئ، فإنها تظل نداءات بلا صدى، وتحمل في طياتها ثغرات منهجية ، وتصورات لاتشفي الغليل، ولا تشبع العقول، ولا تقنع النقاد والباحثين بأي حال من الأحوال. فالنقد الأدبي عملية متكاملة ، عليها أن تلم بجميع جوانب النص الأدبي ، من مؤلف، ونص، وقارئ، وواقع. وأي إقصاء لعنصر من هذه العناصر يجعل العمل الوصفي ناقصا ومختلا، تعوزه الموضوعية، والإحاطة الشاملة ، والاستقصاء العلمي الدقيق. ومن ثم، فإننا نميل إلى استغلال منهج متكامل، يراعي جميع عناصر النص الإبداعي من ملحقات موازية داخلية وخارجية ، واستثمار البنى الدلالية والتركيبية والتداولية، مع التركيز على الكاتب والنص والقارئ والواقع على حد سواء.
إن عودة المؤلف إلى النقد الأدبي ضرورة منهجية ملحة، ورغبة تأويلية مستوجبة، بعد فشل المقاربات البنيوية، وعجز مناهج التقبل ونظريات التلقي عن استيعاب النص الأدبي استيعابا جيدا ومثمرا، كما يرى موريس كوتوريي(Maurice Couturier) [52]. فكل منهج يحمل في بذرته نواقص فنائه. لهذا، ينبغي أن نلم بجميع مكونات النص الأدبي الأساسية، وأن نستفيد من جميع النظريات الأدبية والنقدية القديمة والحديثة على السواء. فهذا بارت نفسه يرى أن المؤلف ماتزال سلطته قائمة، على الرغم من أنه أعلن موته، والنقد الجديد لم يعمل في أغلب الأحوال إلا على تدعيمها.[53]
والدليل على أهمية المؤلف في مقاربة النص الإبداعي، تلك الضجة التي أحدثها الطلبة في فرنسا سنة 1968م بدعوتهم إلى سقوط البنيوية، لكونها تقتل الإنسان، وتقصي التاريخ لحساب النص والنسق والنظام، ناهيك عن الأوهام التي وقعت فيها البنيوية لما حصرت عملها في التقعيد والوصف الموضوعي المجرد للبنية الداخلية للنص، وما يتشابك فيها من علاقات. فقد اعتبرت البنيوية النص- كما قلنا سالفا- نظاما مغلقا لاعلاقة له بالكاتب المبدع ولا بالتطور التاريخي. وقد فتح عليها هذا التصور باب النقد على مصراعيه ، وذلك من قبل الوجودي سارتر ، والتاريخي روجيه جارودي الذي كان يرى أن البنية من حيث هي مسلمة أولوية يجب أن تكون نقطة بداية لانقطة انتهاء. ومن ثم، فإن قولها بموت الإنسان هو ضد النزعة الإنسانية. فهناك من النقاد البنيويين أنفسهم من كان له نفس الرأي، مثل: جوليا كريستيفا، وتودوروف، ورولان بارت، وجيرار جنيت، وفيليب سولرز، وجاك لاكان، وجاك دريدا ، وفوكو الذي أكد أنه من:" العبث أن ننكر وجود الكاتب أو المبدع. لذلك، دعا إلى وجوب التفريق بين الذات الفردية للمؤلف وهي التي عد نكرانها من العبث، والذات المعرفية، وهي التي يشترك فيها المؤلف مع ذوات أخرى".[54]
هذا، وتحمل عتبة " اسم المؤلف" دلالة كبيرة في إضاءة النص وتوضيحه. وبالتالي، يزكي حضور اسم الكاتب أو الشاعر أو الروائي العمل، ويعطيه مشروعية التوثيق والترويج. وعبره، يتعرف القارئ إلى المؤلف( بفتح اللام)، ويكون أفق انتظاره الخاص، كلما أصدر ذلك المبدع كتابا آخر. وهكذا، فوجود المؤلف على غلاف الكتاب يعني حضوره، والتعريف بالعمل وتوقيعه ، تجنبا لكل ادعاء وانتحال وسرقة أدبية أو علمية. وينبغي أن نميز بين مؤلف لم يكتب إلا كتابا واحدا، وهذا لايثير فضول القراء، ولا يفسح أمامهم أي أفق انتظار، والمؤلف الذي كتب مؤلفات عدة، وأثبت وجوده بأعماله السابقة. فهذا الكاتب ينتظره القراء باستمرار، ويترقبون إصداراته الجديدة ؛ لأنهم كونوا حوله تصورا أسلوبيا وأجناسيا ودلاليا. وفي هذا السياق، يقول فيليب لوجون PH. Lejeune:" ربما لايصبح المرء مؤلفا إلا ابتداء من كتابه الثاني، عندما يغدو الاسم الشخصي الذي يوجد على الغلاف "العامل المشترك" الذي يجمع على الأقل نصين مختلفين. ومن ثم، يعطي فكرة شخص لايمكن أن يرد على نص بعينه من هذه النصوص، ويمكنه أن ينتج نصوصا أخرى، فيتجاوزها جميعا."[55]
إن تثبيت اسم المؤلف العائلي والشخصي، سواء من قبل الناشر أو المبدع نفسه أو سيرا على الخطة السائدة في طبع الكتب والمنشورات، إنما يراد منه تخليده في ذاكرة القارئ. ولا يعدو أن يكون اسم أي مؤلف على الغلاف إلا ركاما من الحروف الميتة:"فحين يرتقي اسم المؤلف إلى مستوى النص،فإنه ينتعش ويتحرك، ويهب نفسه بحق للقراءة. أما حين يقتصر وجوده على الغلاف، فلا يكون موضوع قراءة، بل علامة على أن المؤلف مشهور أو شبه معروف أو مجهول".[56]
تلكم – إذاً- أهم المحطات الأساسية التي عرفتها صورة المؤلف التي يمكن اختزالها في ثنائية الحياة والموت، أو ثنائية الإقصاء والإثبات، أو ثنائية الاعتراف والإنكار، ولكن يبقى المؤلف عنصرا ضروريا لايمكن الاستغناء عنه بأي شكل من الأشكال، وخاصة حين نريد مقاربة النصوص فهما وتفسيرا وتأويلا، على الرغم من وجود ظاهرة التناص.
عتبة الخطاب المقدماتي في الديوان الشعري
المغربي المعاصر
< كتاب). مقالات (مجموعة إسلامية تصورات ،< جميعاً الأرض في حرماته و الله سلطان على المعتدي السلطان هذا بها يثبت أن يحاول>
د. حسن الرموتي – المغرب
شكل النص الأدبي – شعرا أو نثرا – اهتماما كبيرا في الدراسات النقدية القديمة والحديثة و ظل هذا الاهتمام يربط و بطريقة مباشرة بين المبدع والأثر الأدبي –. لكن مع رولان بارط كأحد رموز و رواد النقد البنيوي سيمنح للنص استقلالا تاما و ذلك عندما أعلن في مقالته الشهيرة سنة - 1968- موت المؤلف. هذا التطور في الدراسات النقدية سيؤدي إلى ظهور مفاهيم جديدة ترتبط بالنص ، هذه المفاهيم أعادت الاعتبار إلى جوانب أساسية في النص الإبداعي ، ومن أهم هذه المصطلحات : النص الملحق أو الموازي paratexte . النص الموازي أو الملحق - 1 هو ما أصطلح عليه في أغلب الدارسات النقدية العربية بالعتبات – أو عتبات الكتابة - و يقصد بذلك ، جميع العناصر المرتبطة بالنص أو الأثر الأدبي و التي تشكل مدخلا لقراءة النص فهذه العتبات هي التي ستقود القارئ ، الناقد إلى مركز الانفعالات ، و حركية الحياة في مسالك النص 2 ، بمعنى آخر تشكل هذه العتبات قنطرة أساسية للعبور إلى النص ، و النص بدون هذه العتبات أو المداخل سيكون عالما مغلقا يصعب اقتحامه. و يعتبر الناقد الفرنسي جيرار جينيت g. genette من أهم المنشغلين بالنقد في هذا المجال ، خصوصا عند صدور كتابه الهام – عتبات - - seuils - الذي صدر سنة 1987. وقد تحدث جينيت عن ما أسماه المتعاليات النصية: pratexte أو المناص و يعتبره كل ما يدور في فلك النص من بعيد أو قريب 3.
يشكل التقديم أو المقدمة خطابا موازيا أو ملحقا مباشرا ، موجه في العمق إلى الخطاب و المُخاطب ، بمعنى آخر إلى الأثراالادبي و المتلقي، فهي حسب جيرار جينيت كل أنواع النصوص الممهدة لنص ما و التي هي خطاب حول النص 4 فهي من هذا المنطلق من الخطابات الافتتاحية ، فاتحة و تمهيد وديباجة و تنبيه وإخبار 5 و إن كانت هذه العتبة ليست ملزمة ، كما الأمر في العنوان أو اسم المؤاف مثلا ، و المقدمات قد تختلف باختلاف الطبعات و كذلك شروط الزمان و المكان المتحكمة في كتابة المقدمة ، و الملاحظ كذلك أن هذه المقدمات توجد إما في أوائل العمل الأدبي أو في آخره ، و هذا التموقع له دلالاته ، و هذه العتبة ليست ظاهرة حديثة أو معاصرة ، بل إن المصنفات القديمة و الحديث شعرا كانت أو نثرا ، فإن مبدعيها و ضعوا تقديما لكتاباتهم ، « تكتسي أهمية مركزية كمدخل للكتاب لاحتوائها معلومات تساعد كثيرا في فهم طبيعة و دواعي تأليفه و تحديد موضوعه » 6 و نشير إلى مقدمة أبي العلاء المعري في اللزوميات ، مثلا ، أو المقدمة التي وضعها مطران خليل مطران لديوانه و مقدمة ناجي علوش لديوان السياب ، و في الرواية نشير إلى المقدمة التي وضعها عبد الكريم غلاب لروايته دفنا الماضي أو مبارك ربيع لروايته الريح الشتوية . و يمكن أن نميز بين نوعين من المقدمات ، مقدمة ذاتيه من وضع المؤلف نفسه ، أو مقدمة غيرية من وضع مبدع آخر أو ناقد معين ، بل قد يكون المقدم هو الناشر،أو مقدم وهمي ، هذه المقدمات تتخذ أحيانا طابعا سجاليا ، بين الكتاب ، و مجالا للرد و طرح الأفكار النقدية و الأدبية و تشكل عتبة المقدمة باعتبارها نصا ملحقا مباشرا مدخلا مهما لاقتحام النص الأدبي ، ، فهي لا تقل أهمية عن عتبة العنوان والإهداء فهذه العتبات لها سياقات توظيفية و تاريخية و نصية تختزل جانبا مركزيا من منطق الكتابة 7 . المقدمة إذن هي بمتابة تدشين للنص ،و فرصة لخلق تلك العلاقة ممكنة بين المتلقي النص، يقدم له آليات مسبقة لقراءته ، لكن في حالات كثيرة ، وقد تكون إساءة حقيقية لجوهر العمل الإبداعي الذي يفترض فيه الانفتاح و تعدد قراءاته. إن العمل الجيد لا يحتاج إلى تقديم حسب جينيت 8 ، فالتقديم و إن كان مدخلا مهما لقراءة العمل الأدبي فإنه يفقده الكثير من دلالاته ، بل ينسج وساطة غير مرغوب فيها بين المبدع و المتلقي 9 . و السبب يعود فيما نعتقد إلى أن المقدمة غيرية كانت أو ذاتية قد تفرض بوعي أو دون وعي شروطا على القارئ، و لن تسمع له بإعادة بناء النص و تأويل دلالاته ، من منطلق أنه نص إبداعي تخييلي .
من هذا المنطلق فما طبيعة التقديم في الديوان الشعري المغربي المعاصر ؟
بالعودة إلى الديوان الشعري المغربي المعاصر، و لأجيال مختلفة من الشعراء فأولى المقدمات التي نريد الإشارة إليها ، المقدمة التي خص بها الشاعر و المناضل محمد الحبيب الفرقاني ديوانه دخان من الأزمنة المحترقة ، * و هي مقدمة طويلة تمتد من ص 3 إلى ص92 اعتبرها دراسة نقدية للشعر ، من حيث نشأته و مضمونه و طبيعته ومذاهبه ، و تيارات الشعر العربي ، ثم الحديث عن الشعر المغربي قبل و بعد الاستقلال ، ثم القصيدة المغربية خلال السبعينيات ، تشكل هذه المقدمة جزءا هاما من حجم الديوان ، حاول فيها الشاعركذلك تحديد مفهومه للشعر « الشعر كالحب .. كلاهما عاطفة إنسانية وجدانية .. تنبعان من الجمال...تخترقان الأهوال و تحتملان كل المتاعب...تأسيس اشراقي للبنية الاجتماعية ...صياغة إنسانية لعلاقاتها العامة و الخاصة .. تحرير المنازع من رقبةالفردية و التصور الأحادي...» 10 و يحدد الشاعر ثلاثة أبعاد للشعر ، البعد الوجداني ، البعد الموسيقي ، البعد الإنساني ، هكذا يعرف الفر قاني الشعر،هذا التعريف يرتبط بمحمد الفرقاني كشاعر ثم كمناضل ، فقد تحمل الشاعر أعباء سياسية و نضالية كثيرة ، عايش أحداثا و كان فاعلا فيها ،ساهم في الكفاح الوطني ، وبعد الاستقلال واصل نشاطه السياسي في صفوف الحركة التقدمية ، أعتقل عدة مرات و سجن و نفي مرارا ... هذه الأحداث هي التي صنعت مفهوم الشعر عند الفر قاني ، لذلك جاءت قصائده تزاوج بين النبرة الإنسانية و النبرة الخطابية المباشرة في كثير من الأحيان ، فهو لا يتردد في دعوة القراء إلى اكتشاف هذه القصائد « قيمتها الاجتماعية و مرابطها الفنية و الإنسانية بحركة التاريخ و بصراعاتها الاجتماعية و السياسية الدائرة ...و أبعادها الثلاثة .. ليتعرفوا ما إذا كان النجاح حليفي و حليف كلماتي...» 11 هكذا يدعو الشاعر المتلقي إلى قراءة الديوان من العناصر التي حددها ، ومن خلال مفهومه للشعر لكي يحكموا عليه و على شعره والواقع أن الفرقاني يحدد مسار القارئ و يرسم له طرقا محددا ،بعيدا عن أي تأويل مغرض كما يعتقد الشاعر، و بالتالي فهو يقتل فيه روح إعادة بناء النص من جديد ،واعطائه دلالات متعددة باختلاف زمان و مكان و شروط القراءة لأن أصالة النص تتوقف على أن« خلود الأثر الأدبي متوقف على مدى تفاعله مع أوساط مختلفة » 12 يقول الفرقاني في هذا المقطع ذي السمة الخطابية البعيدة عن حقيقة الشعر:
في حنجرتكم الذهبية يا أبناء الشوارع
أصوات مبحوحة
تأكلها الأبواق في أفاريز الطرقات
في صناديقكم يا أبناء الشوارع / تخشبت الكلمات
13
يا أيها العربي، انك أمة/ ملء الزمان
ملء أركان البصر / تاريخ وجهك ثورة مجنونة
و خصالك الحمراء بركان زفر/ النار أهلي
و الأعاصير منزلي / و الثورة ظمئي / طعامي المعتبر 14
المقدمة الذاتية الثانية التي سأتناولها هي مقدمة ديوان قبلة بلا شفة للشاعر الشاب حسن بنمنصور ، وهو عمل شعري صدر بعد عقدين من الزمن عن ديوان الفرقاني جاءت مقدمة بنمنصور قصيرة جدا بين الصفحة 9 و10 عنونها ب ً مقدمةً ، يعترف الشاعر أنه لم يكن يحلم يوما بإصدارعمل شعري ، و أن ما يكتبه هو فقط لنفسه و حبيبته ، و أن كتاباته لا يخضعها لأوزان الخليل « لم اقس كتاباتي على أوزان الخليل ، ولا خضعتها لحركات التفعيلات و القوافي ، و لكن تركتها حرة تسبح في هذا الفضاء الممتد بلا حدود » 15 ص9 الشاعر يقر أن ما يكتبه ليس شعرا ، و أنه يسبح فقط مع الكلمات ، و أن ما يخطه هو لنفسه و محبوبته ، لماذا هذا العناء ؟ ثم ما جدوى وضع كلمة شعر على الغلاف ؟ أم أن الشاعر يضعنا منذ البداية أمام حقيقة مضمون الديوان ؟ و الذي يفتقد لكل مقومات الشعر الجميل من ايقاع و صور شعرية ... يقول :
قالت لي و من أين / لي بشاعريتك/
في الوصف و الإنشاء / قلت أنا راض
بما تكتبين فدعي / قلبك يكتب / ما يشاء
قالت سأصيح صيحة / غير مسبوقة في عالم النساء 16
و قول أيضا :
لو لم يكن بيننا المحمول / لذوبنا الشوق
بين المعقول و اللامعقول
و لغزانا الضنى /غزو العِدى/ بين العرض و الطول 17
من خلال هاتين المقدمتين الذاتيتين نطرح سؤالا بسيطا لماذا يكتب الشاعر مقدمة لعمله الشعري ؟ اعتقد أن المقدمتين تجيب عن هذا السؤال، فالشعراء المغاربة المتميزون لم يكتبوا مقدمات ذاتية لأعمالهم . بل قلة منهم تركوا هذه المهمة لغيرهم .
ومن هؤلاء الشعراء عبد الكريم الطبال ، وهو شاعر مغربي له مكانته في خريطة الشعر المغربي المعاصر ، و الدارس لهذا المتن لا يمكن أن يتجاوز هذا الشاعر ، لأنه واكب هذه القصيدة عبر نموها و استطاع أن يؤسس له منجزا شعريا جديرا بالدراسة . وفي ديوانه ً بعد الجلبة ً نجد مقدمة كتبها شاعر مميز آخر عنونها برحلة في روح الأشياء ، وهو الشاعرو الناقد محمد الميموني ، حاول فيها الاقتراب من عالم الطبال الشعري بطريقة سريعة مبرزا مكانته و استمراره في العطاء« تجربة الطبال تتأمل ذاتها من جديد، تجدد نفسها و تتفتح على آفاق أخرى و تقتحم مجالات جديدة بإصرار قل مثيله فيما نعرفه من مسيرات و سير الشعراء المغاربة »18 و لا يفوت المقدم أن ينبه القارئ أن مقدمته لا يجب أن تقف حاجزا بينه و بين النص بل يدعوه إلى قراءته الخاصة « لا أحب أن أقف بين القارئ و بين الديوان فأنوب عنه في القراءة و أشوش على ذوقه و خياله … « 19 هكذا ينتبه الميموني إلى مسألة أساسية وهي أن المقدمة كنص يفترض فيه توفره على قدر كاف من الاستقلالية والاكتفاء الذاتيين لمواجهة كل الاحتمالات التداولية الممكنة 20 ، و القارئ نفسه يجب أن يتمتع بالقدر الكافي من الذكاء و الوعي النقدي ليتحرر من أي سلطة قد تفرضها هذه العتبة عليه . لذا نرى أن تقديم الميومني هو تقديم واع ، مدرك لحدود الإبداع ، و حين يقوم بهذه الخطوة فهو يدرك قيمة النصوص و قيمة الشاعر رغم العلاقة الحميمية التي قد تربط بين المبدعين . إن نصوص عبد الكريم الطبال تقدم نفسها بنفسها كنصوص مشرقة، عميقة، منفتحة.
يقول الطبال :
شجيرات/ على طرف النهر/ تسأل عصفورة
قد تمر على بابها/عن نجوم / سقطن لها/ في السماء ،
غيمة تتلصص/ من جفن سنبلة/ كي ترى/
السنديان العجوز / كيف يصمد/ في ملكه/
و يصاول كل الغزاة . 21
ا
المقدمة الثانية الغيرية نجدها في ديوان الفروسية ، و إن لم يسميها صاحبها كذلك ، وهو الناقد المعروف محيي الدين صبحي أسماها حداثة التراث و تراث الحداثة في شعر المجاطي . و هي تتموقع في آخر الديوان من ص 133 إلى ص170 وهي في الواقع دراسة تحليلية و نقدية يبدأها بتعرف الحداثة ثم ينتقل للحديث عن قصائد الديوان و اللمحات التراثية فيه و الرموز و الصور و رؤية الشاعر، وهي في الواقع مقدمة مهمة لأنها تقدم للقارئ مفاتيح قراءة الديوان ، لان النصوص تتطلب جهدا من التأمل و التمعن و القارئ المتسرع عليه أن ينصرف عنها ، فالمقدم يقارن بين الشاعر و ما فعله المعري بشعراء عصره. فقد جاء المعري في عصر سادت فيه الركاكة بدعوة الرقة فجاء بديباجة الاستعارات البعيدة و المعاني العميقة و البحور الرصينة... و كذلك فعل المجاطي 22 ثم يبرز مكانة أحمد المجاطي الشعرية فهو «يتبوأ مكانة بين رواد الشعر الحديث ...أما بالنسبة لشعراء المغرب العربي ...فهو رأس الطليعة التي تستحق لقب شاعر » 23 .
و لعل وضع هذه المقدمة في آخر الديوان له ما يبرره، أولا أنها دراسة لناقد متميز تبرز وجهة نظر الناقد من العمل ، وهي دراسة عميقة لقراءة العمل خصوصا بالنسبة للقارئ العادي . ثانيا أن القارئ الناقد يمكن .أن يعود إليها بعد الانتهاء من قراءة العمل. و لنبرز عمق تجربة الشاعر المجاطي نقترح هذا المقطع :
دبحنا الضب من سغب / و نمنا في ظلال الشيح
وما عزفت لنا الأوتار / غير قصائد من ريح
فدَوَمنا / ومر بركبنا المنبت / يمضغ عظم ناقته
وفي عينيه خفّ حنين/ وكنا اثنين/ فصار الصمت ثالثنا
و رابعنا / دموع العين .24
و خلاصة القول و من خلال قراءتنا لهذه المقدمات يمكن أن نستخلص ما يلي
▬ المقدمات الذاتية هي مقدمات تسيء للعمل الشعري، لأن الشاعر يفرض على المتلقي رؤيته الخاصة للشعر، و يقدم له مفاتيح القراءة المباشرة ، و ذلك اغتيال للأثر الأدبي في المهد، لأن دور القارئ هو إعادة تشكيل النص و بنائه و ملء فراغاته ... لذلك نلاحظ أن الشعراء الكبار ينفرون من كتابة مقدمات لدواوينهم.
المقدمات الذاتية هي تبريرية ، خادعة، يحاول الشاعر إخفاء أي نقص في كتاباته من خلال تهويم القارئ بموقفه، كما هو الحال عند حسن بن منصور، هل هنالك شعر دون إيقاع ؟ دون عمق في التجربة، هل الشعر هو ما نكتبه للنفس و للحبيب ؟
▬ المقدمات الغيرية، تختلف باختلاف المقدم، و مكانته الأدبية، و علاقته بالمقدم له ، فقد تكون المقدمة مفيدة للقارئ للولوج إلى النص، حين لا يمتلك آليات القراءة الجيدة ، و يكون المقدم على قدر كبير من الموضوعية في تقديمه بعيدا عن المحاباة وهو يحفز القارئ و يقدم شهادته حول النصوص . لأن التقديم يجب أن يكون للنص و ليس للمبدع .
إن التعامل مع المقدمات بحذر يجب أن تكون من أولويات القارئ ، لأن الإساءة للنص تبدو أسهل من التعامل معه بموضوعية .
< كتاب). مقالات (مجموعة إسلامية تصورات ،< جميعاً الأرض في حرماته و الله سلطان على المعتدي السلطان هذا بها يثبت أن يحاول>
هوامش الدراسة
1 عبد النبي ذاكر عتبات الكتابة دار وليلي للطباعة و النشر مراكش ط 1/ 1998 ص 9
2باسمة درمش عتبات النص علامات المجلد 16/ الجزء 61 ماي / 2007 ص 40
3عبد النبي ذاكر عتبات الكتابة المرجع نفسه ص 9
4 احمد المنادي علامات في النقد المجلد 16/الجزء 61/ ماي 2007 ص144
5عبد النبي ذاكر عتبات الكتابة نفسه ص 77
6 عز الين العلام الآداب السلطانية عالم المعرفة / الكويت ع 324/فبراير 2006 ص42
7 ع الفتاح الجحمري عتبات النص البنية و الدلالة منشورات الرابطة البيضاء 1996/ ص16
8- د عبد المالك اشهبون عالم الفكر المجلد 33/ العدد 2/ أكتوبر/ دسمبر 2004 ص 89.
9- مصطفى الشليح أحلام الفجر ذبدبات التمرد على التنميط في القصيدة المغربية / مجلة المناهل العدد 51 / السنة 21 / يونيو 1996 ص 163
10محمد الحبيب الفرقاني دخان من الأزمنة المحترقة دار النشر المغربية ط1/1979 ص 25/26
11 محمد الحبيب الفرقاني نفسه ص92
12 إدريس بلمليح المختارات الشعرية و أجهزة تلقيها عند العرب منشورات كلية الآداب الرباط مطبعة النجاح الجديدة البيضاء ط 1 /1995 ص287
13 محمد الحبيب الفرقاني الديوان ص251
14 محمد الحبيب الفرقاني الديوان ص 226
15 حسن بنمنصور قبلة بلا شفة المطبعة الوطنية مراكش ط1/ 2000 / ص9
16 حسن بنمنصور الديوان نفسه13
17حسن بنمنصور الديوان نفسه نفسه ص166
18 عبد الكريم الطبال بعد الجلبة إبداعات سلسلة شراع ع2/ 1998 ص7
19 عبد الكريم الطبال بعد الجلبة الديوان نفسه ص 7
20 عبد العالي بوطيب العتبات النصية بين الوعي النظري و المقاربة النقدية جريدة العلم الملحق الثقافي ليوم السبت 28 أبريل 2001/ص 11
21 عبد الكريم الطبال بعد الجلبة إبداعات سلسلة شراع 2/ مارس / ابريل 1998 ص 31
22 أحمد المجاطي الفروسية منشورات المجلس القومي للثقافة العربيةط1/1987ص170
23 أحمد المجاطي ديوان الفروسية نفسه ص170
24أحمد المجاطي ديوان الفروسية نفسه/ ص110
ترجمة بداية المقدمة عن كتاب جيرار جينت
Seuils) paratexts )
أحمد بن يونس الأردن
من خلال النسخة الإنجليزية
Translated by janee.lewin
Thresholds of interpretation
إن العمل الأدبي يحتوي بشكل كلي أو جوهري على نصٍّ معترف بحده الأدبي على أنه أكثر أو أقل من سلسلة جمل لفظية طويلة لها أهمية. ولكن يبقى هذا النص مقدماً بشكل نادر بطريقة غير مزخرفة وغير ثابت وغير مصاحب لأعداد محددة من الألفاظ أو التناصات الأخرى: على سبيل المثال اسم المؤلف والعنوان ومقدمة الكتاب أو الفاتحة والتوضيحات الأخرى.
وعلى الرغم من أننا عادة لا نعرف ما إذا كانت هذه التناصات متعلقة بالنص نفسه ـ على أي حال ـ فإن هذه التناصات تحيط بالنص أو تعتبر امتداداً له, على وجه التحديد, وذلك من أجل تقديم ذلك النص في الوضع الاعتيادي والمنطقي له وللتأكيد على حضور ذلك النص في العالم( الوجود ) وبالتالي تناول ذلك النص واستهلاكه على شكله( في أيامنا هذه على الأقل ) في الكتاب وهذه النتاجات المصاحبة عادة ما تكون متنوعة في الامتداد والشكل( الظهور ) تستمد ما قلته في مكان آخر عن العمل النصي. بالمحافظة في بعض الأحيان على المعنى المبهم لهذه الإضافة( النص) ( لقد ذكرت الصفات مثل( أعلى منها قوات الجندية أم شبه عسكرية بالنسبة لنا وبناء على ذلك فإن paratext هو ما يمكِّن النصَّ لأن يصبح كتاباً أو عرضاً لقراءة أو بشكل عام للعامة من الناس.
أكثر من الحدود أو الحد الحكم فإن para أكثر منه بداية أو كلمة أو كما استخدم بورخيس المقدمة السديدة على اعتبارها ( مدخل) يتيح للعالم بالدخول في مسؤولية كبيرة بالبقاء داخل النص أو العودة ( الخروج منه) وبالتالي فإنها منطقة غير محددة بين الداخل والخارج , منطقة بدون أي حرس أو جاء( في الداخل النصي( عودة إلى داخل النص) أو حتى إلى الجانب الخارجي (بالعودة إلى العالم الحديث بنظرته إلى النص). الحافة أو كما وصفها فيلب " إن الهامش للنص المطبوع هو في الحقيقة الذي يتحكم بقدرة القارئ على قراءة النص كله" كما أن هذا الهامش عادة ما يكون الناقل للشرح أو التغير كما أراد المؤلف حين يكون له القدرة من تحويل تلك المنطقة ما بين النص والخروج عن النص منطقة ليست فقط قائمة على التحول بل التحويل تكون ما بين التقنيات المستخدمة والأسلوب الواقعي بتأثيرها على العامة تأثير يكون جيداً للفهم أو ضعيف للفهم وعادة ما يتبع هذا التأثير على النص, وعلى القارئ من نظرة المؤلف وحلفائه من القراء. إذا أردنا أن نعبر أو نقول خبر ذلك التأثير بتصريح مكبوح فإن ما تبقى من الكتاب بمعزل عن مقدمته تقريباً لايساوي شيء إلا بمعناه وطرقه وذلك التأثير.
ولنحدد ما هو على المحك, نستطيع أن نقول أو نسأل ذلك السؤال البسيط على سبيل المثال, لتحديد النص بمفرده وبدون أية أدلة أو تعليمات كيف لنا أن نقرأ جويس يوليس إذا لم تكن معنونه تحت اسم يوليس.
[1] محمد خاين, العلامة الأيقونية والتواصل الإشهاري, الملتقى الخامس, السيمياء والنص الأدبي, الجزائر/2008ص204
[2] محي الدين اللباد, مجلة نَظَرْ, يوميات المجاورة, الألبوم الرابع, العربي للنشر والتوزيع, ومؤسسة روزا ليوسف, لقاهرة2005ص44
[6] عبد اللطيف الأرناؤوط, ليلى العثمان, رحلة في أعمالها غير الكاملة, إشبيلية للنشر والتوزيع, الطبعة الأولى, سوريا 1996 ص98
[9] أحمد علي محمد, سيميائية القصيدة, مجلة علامات في النقد, المجلد 18 الجزء 70,أغسطس 2009 النادي الأدبي الثقافي بجدة , السعودية/ ص 131
[14] Gerard Genette ,paratexts ,thresholds of interpretation, translated by JAN E. LEWIN, CAMBRIDGE university press 1997, pag81
[16] جميل حمداوي, السيميوطيقا والعنونة, مجلة عالم الفكر, المجلد الخامس والعشرون, العدد الثالث, الكويت 1997ص81
[17] بربارة بيكولسكا, التراث والمعاصرة في إبداع ليلى العثمان, ترجمة هاتف الجناني,دار المدى للثقافة والنشر, الطبعة الأولى سوريا/ 1997ص 96
[18] ليلى العثمان, الحواجز السوداء,الطبعة الثانية, شركة مطبعة مقهوي, الكويت / 1997ص 9
[19] / جميل حمداوي, السيميوطيقا والعنونة, عالم الفكر, المجلد الخامس والعشرون العدد الثالث , الكويت 1997 ص 80
[20] مجموعة أعمال الدكتور صلاح فضل , بلاغة الخطاب وعلم النص , دار الكتاب المصري القاهرة , دار الكتاب اللبناني بيروت, الطبعة الأولى 2004صـ391
[22] Gerard Genette ,paratexts ,thresholds of interpretation, translated by JAN E. LEWIN, CAMBRIDGE university press 1997 p126
-
[28] - عبد السلام بنعبد العالي: التراث والهوية، دار توبقال للنشر،الدار البيضاء،الطبعة الأولى سنة 1987م، صص:82-83.
[31] - عبد السلام بنعبد العالي: ( المؤلف في تراثنا الثقافي)، التراث والهوية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، سنة 1987م، ص:83.
[32] - د. عبد الفتاج كيليطو: الأدب والغرابة، دار الطليعة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية سنة 1983م، ص:15.
[34] - د. عبد الفتاح كيليطو: الكتابة والتناسخ، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1985م، صص:8-10.
[35] - عبد الباسط الكراري: ( موت المؤلف والنص من منظور التكوينية النصية)، الملحق الثقافي، جريدة الاتحاد الاشتراكي،المغرب، العدد:817، 14 مارس، ص:4.
[36] - Groupe D’entreverne: Analyse sémiotique des textes, ed : Toubkal.Casablanca.1éd, 1987.p :7-8.
[40] - محمد الهادي المطوي: (في التعالي النصي والمتعاليات النصية)، المجلة العربية للثقافة، تونس، السنة 16، العدد32، 1997، ص:187.
[42] - رولان بارت: النقد والحقيقة، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين ، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1985م.
[56] - د. حميد لحمداني: بنية النص السردي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1991م، ص:59-60.